Category Archives: خطب الجمعة

الجنّةُ والنّار

الحمدُ للهِ الْمُبْدِئِ الْمُعيدِ الغنِيِّ الحمِيدِ ذِي العَفْوِ الوَاسِعِ والعِقابِ الشَّديد، من هَداهُ فهوَ السعيدُ السّديدُ وَمَنْ أَضَلَّهُ فَهُوَ الطَّريدُ البَعيدُ ومن أَرشدَهُ إلى سبيلِ النجاةِ ووَفَّقهُ فهو الرَّشيد، يَعْلَمُ ما ظهَرَ وما بطَنَ وما خفِيَ وما عَلَنَ وهو أقرَبُ إلى كلِّ مُريدٍ مِنْ حَبْلِ الوَرِيد، قَسَمَ الخلقَ قِسْمَيْنِ وجَعَلَ لَهُمْ مَنْزِلَتَيْنِ فريقٌ في الجنةِ وفريقٌ في السَّعيرِ ورَغَّبَ في ثَوابِهِ ورَهَّبَ مِنْ عِقَابِه وَللهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِه وَمَنْ أسَاءَ فعلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للعَبِيدِ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على سيِّدِنا محمدٍ البشيرِ النّذيرِ وعلى ءالِه وأصحابِه الطّيّبينَ الطّاهرِين، أما بعدُ عبادَ اللهِ فإنِّي أُوصِيكُمْ ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ العلِيِّ العظيمِ القائِلِ في مُحكَمِ كِتابِه ﴿لَا يَسۡتَوِيٓ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۚ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٢٠﴾[1] إخوةَ الإِيمانِ إِنَّ الذَّكِيَّ الفَطِنَ مَنْ تَزَوَّدَ مِنْ دُنياهُ لآخِرَتِهِ ولَمْ يَبِعْ ءاخِرَتَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا، فالنَّاسُ يومَ القيامةِ قسمٌ إلى الجنَةِ وقسمٌ إلى النّارِ فهمَا دارَانِ مَا للنّاسِ غيرُهما فَانْظُرْ يا أخِي ماذَا تختارُ لنفسِكَ، فالجنَّةُ أُعِدَّتْ لِلْمُؤْمِنينَ والنّارُ أُعِدّتْ للكافرينَ ولا يَسْتَوِي أصحابُ النّارِ وأَصحابُ الجنّة، طعامُ أهلِ الجنّةِ كمَا قالَ تعالَى ﴿وَفَٰكِهَة مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ٢٠ وَلَحۡمِ طَيۡر مِّمَّا يَشۡتَهُونَ ٢١﴾ وَكمَا قالَ عزّ وجلّ ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَة ٢٣ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيٓ‍َٔۢا بِمَآ أَسۡلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡأَيَّامِ ٱلۡخَالِيَةِ ٢٤﴾[2] أمّا طعامُ أهلِ النارِ فكمَا قالَ تعالى ﴿لَّيۡسَ لَهُمۡ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيع ٦ لَّا يُسۡمِنُ وَلَا يُغۡنِي مِن جُوع ٧﴾[3] والضّريعُ شجَرٌ كريهُ المنظَرِ كريهُ الرّائحةِ وثَمَرُهُ كريهُ الطّعمِ وكما قالَ تعالى ﴿إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ ٤٣ طَعَامُ ٱلۡأَثِيمِ ٤٤ كَٱلۡمُهۡلِ يَغۡلِي فِي ٱلۡبُطُونِ ٤٥ كَغَلۡيِ ٱلۡحَمِيمِ ٤٦﴾[4] وكما قالَ تعالى ﴿وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنۡ غِسۡلِين ٣٦ لَّا يَأۡكُلُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡخَٰطِ‍ُٔونَ ٣٧﴾[5]

إخوةَ الإيمانِ لا يَسْتَوِي أصحابُ النارِ وأصحابُ الجنةِ ولا يستوي شرابُ أهلِ الجنةِ وشرابُ أهلِ النارِ فأمّا أهلُ الجنّةِ فإنّهم يُسْقَوْنَ مِنَ الرّحيقِ وهِيَ عَيْنٌ في الجنّةِ مَشُوبَةٌ بالمسكِ بإِناءٍ مَخْتُومٍ عليهِ بالمسكِ ومَمْزُوجٌ ما فيهِ مِنْ تَسْنِيمٍ وهِيَ عَيْنٌ في الجنةِ رفيعَةُ القَدْرِ قال تعالى ﴿يُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِيق مَّخۡتُومٍ ٢٥ خِتَٰمُهُۥ مِسۡكۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ ٢٦ وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِيمٍ ٢٧ عَيۡنا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ ٢٨﴾[6] وأمّا أهلُ النارِ فشرابُهمُ الماءُ المتناهِي في الحرارةِ قالَ تعالَى ﴿لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرۡدا وَلَا شَرَابًا ٢٤ إِلَّا حَمِيما وَغَسَّاقا ٢٥﴾[7] والحميمُ هو الشرابُ الْمُتَنَاهِي فِي الحرَارَةِ والغَسَّاقُ ما يَسيلُ مِنْ جُلودِ أَهْلِ النّارِ تَسقِيهِمْ إيّاهُ ملائكةُ العذابِ فتتَقَطَّعُ أمعاؤُهم قالَ تعالَى ﴿وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآء كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا ٢٩﴾[8] إخوةَ  الإيمانِ وَلا يَسْتَوِي لباسُ أهلِ الجنةِ ولباسُ أهلِ النّارِ فأمّا أهلُ الجنةِ فثيابُهمُ الحريرُ والسُّنْدُسُ والإِسْتَبْرَقُ قالَ تعالى ﴿عَٰلِيَهُمۡ﴾ أي فوقَهُم ﴿ثِيَابُ سُندُسٍ﴾ أَيِ الثِّيابُ الرَّقيقَةُ مِنَ الدِّيباجِ وَهُوَ الحريرُ ﴿خُضۡر وَإِسۡتَبۡرَقۖ﴾ وهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيباج ﴿وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابا طَهُورًا ٢١﴾[9] وَأَمّا أهلُ النّارِ فثيابُهم مِنْ نَارٍ قالَ تعالى ﴿فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَاب مِّن نَّار يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ ١٩﴾[10] Continue reading الجنّةُ والنّار

الدليل العقلي على وجود الله

 إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستَهْدِيهِ ونَشكُرُه ونستغفرُه ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ، الحمدُ للهِ الذِي خلقَ العُقولَ فنوَّرَ بَصائِرَ قَوْمٍ وَهَدَاهُمْ إلَى الحقِّ بِفَضْلِهِ وَأَعْمَى قُلوبَ ءاخَرِينَ فَأَضَلَّهُمْ بعَدْلِهِ. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ لا شريكَ لهُ ولا شبيهَ ولا مِثْلَ ولا ندَّ لهُ، وَلا حَدَّ وَلا جُثَّةَ وَلا أَعْضاءَ لَهُ، أحدٌ صمدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفِيُّهُ وحبيبُه، مَنْ بَعثَهُ اللهُ رَحمةً لِلعالمينَ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنذِيرًا. اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ وأكرِمْ وأنعِمْ علَى سيِّدِنا محمّدٍ وعلى ءالِه وأصحابِه الطّاهِرِين.

أما بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكم ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ القائِلِ فِي كِتابِه الكَرِيم ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰت لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰما وَقُعُودا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١﴾[1] إخوةَ الإيمانِ إنَّ مَنْ نَظَرَ في مَخْلُوقَاتِ اللهِ نَظَرَ تدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ أَدْرَكَ بِعَقْلِهِ وُجودَ اللهِ تباركَ وتعالَى ووحدانيَّتَهُ وثُبوتَ قُدْرَتِهِ وإرادَتِهِ. وَنَحْنُ إخوةَ الإيمانِ مأمورونَ بِهَذَا التَّفَكُّرِ فَقَدْ وَرَدَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ فِي هذهِ الآيةِ وَيْلٌ لِـمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا اﻫ[2] فإنَّ النَّظَرَ في مَخلوقاتِ اللهِ يَدُلُّ على وُجودِ الخالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وقد قالَ عُلماءُ أَهْلِ السُّنَّةِ إنهُ يجبُ علَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَكُونَ في قَلْبِهِ الدَّليلُ الإِجماليُّ علَى وُجودِ اللهِ. فَالوَاحِدُ منّا إخوةَ الإيمانِ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوقاتِ ثُمَّ وُجِدَ وَخُلِقَ وَمَنْ كَانَ كذلكَ لا بُدَّ مُحتاجٌ إلَى مَنْ أَوْجَدَهُ بعدَ أَنْ لمْ يكنْ لأنَّ العَقْلَ السَّليمَ يَحْكُمُ بِأَنَّ وُجودَ الشَّىءِ بعدَ عدَمِهِ مُحْتَاجٌ إلَى مُوجِدٍ لَهُ وَهذَا الموجِدُ هُوَ اللهُ تَبارَكَ وتعالَى.

هذَا العالمُ مُتَغَيِّرٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فَالهواءُ يَهُبُّ تارةً وَيَسْكُنُ تَارَة .. وَيسْخُنُ وَقْتًا ويَبْرُدُ فِي وَقْتٍ ءَاخَرَ .. وَتَنْبُتُ نَبْتَةٌ وَتَذْبُلُ أُخْرَى .. وَتُشْرِقُ الشمسُ منَ المشرِقِ وتَغْرُبُ فِي المغرِبِ .. وَتكونُ الشمسُ فِي وَسَطِ النهارِ بيضاءَ وفِي ءَاخِرِهِ صَفْرَاءَ فَكُلُّ هذهِ التغيُّراتِ تدُلُّ علَى أَنَّ هذهِ الأشياءَ حادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ لَهَا مُغَيِّرٌ غيَّرَها وَمُطَوِّرٌ طَوَّرَهَا، وَهَذِهِ الأَشياءُ أَجْزاءٌ مِنْ هذا العالَمِ فهذا العالَمُ مخلوقٌ حادثٌ مُحتاجٌ إلَى مَنْ خَلَقَهُ وَهُو اللهُ تعالَى.

فلَوْ قالَ مُلْحِدٌ لا يُؤْمِنُ بِوُجودِ اللهِ نَحْنُ لَا نَرَى اللهَ فكيفَ تُؤْمِنُونَ بوجودِه؟ يُقالُ لَهُ ـ وَانْتَبِهُوا إلَى الجَوابِ إخوةَ الإيمانِ ـ يُقالُ لَهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ تراهُ فإِنَّ ءاثارَ فعلِه كَثيرَةٌ فوُجودُ هذَا العالَمِ وَمَا فيهِ مِنَ المخلوقاتِ دَلِيلٌ على وُجودِ اللهِ فَالكتابُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ كَاتِبٍ والبِنَاءُ لا بدَّ لَهُ مِنْ بَنَّاءٍ وكذلكَ هذَا العالَمُ لا بدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ وأَوْجَدَهُ، وأمّا كونُكَ لا تَرَاهُ فليسَ دَلِيلا علَى عَدَمِ وُجودِهِ فَكَمْ مِنَ الأشياءِ الّتِي تُؤْمِنُ بِوُجودِها وَأنتَ لا تَراهَا وَمِنْ ذَلكَ عَقْلُكَ وَرُوحُكَ وأَلَمُكَ وَفَرَحُكَ.

يُرْوَى أَنَّ بعضَ الدَّهْرِيَّةِ الملاحِدَةِ دَخَلوا علَى أبِي حنيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ وأرادُوا الفَتْكَ بِهِ لأنّهُ لا يَفْتَأُ يَرُدُّ ضَلالاتِهِمْ ويَفْضَحُ زَيْغَهُمْ فقَالَ لَهُمْ أَجيبُونِي علَى مَسْأَلَةٍ ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فقالُوا لَهُ هَاتِ فقالَ مَا تَقُولُونَ في رجلٍ يقولُ لَكُمْ إِنِّي رَأَيْتُ سَفِينَةً مَشْحُونَةً بِالأَحْمَالِ مَمْلُوءَةً بِالأَثْقَالِ قَدِ احْتَوَشَتْهَا فِي لُجَّةِ البَحْرِ أَمْوَاجٌ مُتَلاطِمَةٌ ورِيَاحٌ مُخْتَلِفَةٌ وَهِيَ مِنْ بَيْنِها تَجْرِي مُسْتَوِيَةً ليسَ لَهَا مَلّاحٌ يُجْرِيها وَلا مُدَبِّرٌ يُدَبِّرُ أَمْرَها هَلْ يَجُوزُ ذلكَ في العَقْلِ قالُوا لا هذَا شَىءٌ لا يَقْبَلُهُ العَقْلُ فقالَ أَبُو حنيفةَ يَا سُبْحانَ اللهِ إذَا لَمْ يُجَوِّزِ العَقْلُ سَفِينةً تَجْرِي منْ غيرِ مَلَّاحٍ يُدِيرُها فِي جرَيانِها فَكَيْفَ يُجَوِّزُ قِيامَ هذِه الدُّنيا علَى اخْتِلافِ أحوالِها وتَغَيُّرِ أَعْمَالِها وَسَعَةِ أَطْرَافِها مِنْ غَيْرِ صانِعٍ وَحافِظٍ فَبَكَوْا جَمِيعًا وَقالُوا صَدَقْتَ وأَغْمَدُوا سُيوفَهُمْ وتَابُوا بِالإِسْلام.

قالَ اللهُ تعالَى في سُورةِ الرَّعْد ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰراۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰت لِّقَوۡم يَتَفَكَّرُونَ ٣ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَع مُّتَجَٰوِرَٰت وَجَنَّٰت مِّنۡ أَعۡنَٰب وَزَرۡع وَنَخِيل صِنۡوَان وَغَيۡرُ صِنۡوَان يُسۡقَىٰ بِمَآء وَٰحِد وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡض فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰت لِّقَوۡم يَعۡقِلُونَ ٤﴾[3] تَأَمَّلْ أَخِي المسلمَ تُرْبَةً تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وتأثيرُ الشَّمْسِ فيهَا مُتَسَاوٍ والثِّمارُ التِي تَجِيءُ مِنْهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي الطَّعْمِ وَاللونِ وَالطبيعةِ وَالشَّكْلِ والرَّائحةِ وَالمنافِعِ والخاصِّيَّةِ معَ العِلْمِ أَنَّ الأَرْضَ وَاحِدَةٌ وَالماءَ وَاحِدٌ فَلَوْ كانَ حُدُوثُ الأَشْيَاءِ بِفِعْلِ الطَّبيعةِ كَمَا يقولُ الملحدونَ لَجَاءتْ مُتَشَابِهَةً فإنَّ الطبيعَةَ الواحدةَ تفعَلُ في الجِسْمِ الواحِدِ فِعْلًا مُتَماثِلًا فدَلَّ ذلكَ علَى أنَّ حُدوثَ الحوادِثِ هُوَ بِفِعْلِ قادِرٍ مُخْتَارٍ عَالِمٍ. وَبِمِثْلِ هذَا اسْتَدَلَّ الإمامُ الشافعيُّ رضِيَ اللهُ عنهُ فِيمَا يُرْوَى عنهُ أنَّهُ قالَ ورَقَةُ التُّوتِ رِيحُها وطَعْمُهَا ولونُها وَاحِدٌ تأكُلُ منهَا الغزالَةُ فَيَخْرُجُ منهَا المِسْكُ، وتأكُلُ مِنْهَا دُودَةُ القَزِّ فيخرُجُ منهَا الْحَرِيرُ، ويأكُلُ منهَا الجمَلُ فَيَخْرُجُ منهُ البَعَر، ويَأكُلُ منهَا الماعِزُ فيخرُجُ منهُ اللبَنُ أيِ الحَليبُ اﻫ وسُئِلَ أَعْرَابِيٌّ عن ذلكَ فقَالَ البَعْرَةُ تَدُلُّ علَى البَعِيرِ وءَاثارُ الأَقْدَامِ تَدُلُّ علَى الْمَسيرِ أفَلا يَدُلُّ هذَا العالَمُ على وُجودِ اللطيفِ الْخَبِيرِ اﻫ بَلَى تبارَكَ اللهُ الخَلاقُ العَظِيمُ.

ثُمَّ إنَّ العَقْلَ إِخْوَةَ الإِيمانِ يُدْرِكُ بِالنَّظَرِ السَّلِيمِ فِي مَخْلُوقاتِ اللهِ تعالَى أَنَّ خَالِقَها لا يُشْبِهُها بوَجْهٍ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقُ العَالَمِ يُشْبِهُهُ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الوُجوهِ لَجازَ عليْهِ مَا يَجُوزُ علَى هذَا العَالمِ مِنَ الحُدوثِ وَالحاجَةِ وَالافْتِقَارِ وَالتَّغَيُّرِ لأنَّ الْمُتَشابِهاتِ يَجُوزُ عليهَا ما يجوزُ علَى بعضِها وَلاحْتَاجَ إلَى مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ ومُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ فَإِنَّ الحادثَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ أَوْجَدَهُ وَخَصَّصَهُ بِما هُوَ عليهِ مِنَ الهيئَةِ وَالصُّورَةِ وَالصِّفاتِ، والْمُتَغَيِّرَ مِنْ حَالٍ إلَى حالٍ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُغَيِّرُهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَالْمُتَحَيِّزُ في المكانِ وَالجهةِ لا بدَّ أن يكونَ جسمًا وَافْتِقَارُ الجِسْمِ إلَى مَنْ حَدَّهُ بهذَا المِقْدَارِ مِنْ طُولٍ وعَرْضٍ وسَمْكٍ وَاضِحٌ لا لُبْسَ فيهِ لِصَاحِبِ عَقْلٍ سَلِيمٍ وَاللهُ تبارَكَ وتعالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لأنَّهُ لَوْ كانَ مُحْتَاجًا لِشَىءٍ مِنَ الأَشْياءِ لكانَ مَخْلُوقًا حادِثًا وَلَمْ يَكُنْ إِلهًا أَزَلِيًّا. وَفَّقَنِي اللهُ وَإِيّاكُمْ إلَى الحَقِّ وَالثَّباتِ علَيْهِ، هذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ المؤمِنينَ خديجةَ وَحَفْصَةَ وعائِشَةَ الوَلِيَّةِ البَرَّةِ الطَّاهِرَةِ النَّقِيَّةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَرَّأَةِ وَسَائِرِ أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرِّجْسِ وءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلفاءِ الرَّاشدِينَ أبِي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعُمَرَ الفَارُوقِ الذي يَجْرِي الحَقُّ علَى لِسانِه وَقَلْبِه وَمَنْ قالَ فيهِ الرسولُ مَا لَقِيَكَ الشيطانُ سَالِكًا فَجًّا إِلّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك اهـ وعُثْمَانَ ذي النُّورَيْنِ وَعَلِىٍّ الكَرّارِ وعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أبِي حنيفَةَ ومَالِكٍ والشافِعِيِّ وأحمَدَ وعنِ الأولياءِ والصَّالحينَ أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ أَلَا فَاتَّقُوهُ وَخَافُوهُ.

واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ والسلامِ علَى نَبِيِّهِ الكَريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾[4]، اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ، ربَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ، اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اذكُروا اللهَ العظيمَ يُثِبْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أَمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة ءال عمران/190ـ 191.

[2] رواه ابن حبان في صحيحه.

[3] سورة الرعد/3ـ4.

[4]  سورة الأحزاب/56.

علِىُّ بنُ أبِى طالِب رابعُ الخُلَفَاءِ الراشِدِين

 

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكُرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِىَ لهُ وأشهدُ أن لا إله إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الواحدُ الأحدُ الذِى لم يلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكُنْ له كفُوًا أحدٌ وأشهدُ أنّ سَيّدَنا محمّدًا عبدُه ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هادِيًا ومُبشرًا ونذيرًا. اللهم صلِّ وسلِّمْ على سيدِنا محمدٍ وعلَى ءالِه الطيبينَ وأصحابِهِ الميامِينَ حُماةِ الحقِّ والدِّين.

أمَّا بعدُ عِبادَ اللهِ فإنّى أوصِيكُم ونفسِى بتقوَى اللهِ العلِىِّ العظِيمِ القائلِ فِى محكمِ التنزيلِ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩﴾[1]. وقال تعالى أيضًا ﴿مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَال صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلا ٢٣﴾[2] وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم فعليكُمْ بِسُنَّتِى وسُنَّةِ الخُلفاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّواجِذِ[3] اهـ وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخلافةُ بعدِى ثلاثونَ سنةً[4] اهـ ثُمَّ يكونُ مُلكًا عَضُوضًا أَىْ ظَالِـمًا وكانَتْ هذه السّنُونَ الثَّلاثُونَ هِىَ مُدَّةَ خِلَافَةِ أبِى بكرٍ وعُمَرَ وعثمانَ وعلِىٍّ والحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ رضِىَ اللهُ عنهم وكانُوا جميعًا مِنْ أهلِ العِلْمِ الذِينَ هُم وَرَثَةُ الأنبِيَاءِ. وحديثُنَا اليومَ عنْ أميرِ المؤمنينَ سيدِنا عَلِىِّ بْنِ أبِى طالبٍ رَضِىَ اللهُ تعالى عنه.

هو أبو الحسنِ علِىُّ بنُ أبِى طالبِ بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشِمِ بنِ عبدِ منافٍ ابنُ عَمِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم أمُّهُ فاطمةُ بنتُ أَسَدِ ابنِ هاشِمِ بنِ عبدِ مَنَافٍ وُلِدَ قبلَ البِعْثَةِ بعَشْرِ سِنينَ وتَرَبَّى فِى حِجْرِ النبِىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم وَفِى بَيْتِهِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أسلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ كَانَ يُلَقَّبُ حَيْدَرَةَ وَكَنَاهُ النبِىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم أبا تُراب. ولما هاجَرَ النبِىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم مِنْ مكةَ إلى المدينةِ أمرَه أنْ يَبِيْتَ فِى فِراشِهِ وأجَّلَهُ ثلاثَةَ أيامٍ لِيُؤَدِّىَ الأَمَانَاتِ التِى كانتْ عندَ النبِىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم إلى أَصْحَابِهَا ثُم يَلْحَقَ به إلى المدينةِ فهاجَرَ مِنْ مكةَ إلى المدينةِ المنورةِ ماشيًا. اصطفاهُ النبِىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم صِهرًا له وزوَّجَهُ بِنْتَهُ فاطمةَ الزهراءَ. كان رضِىَ اللهُ عنه وكرَّمَ وجهَهُ ءادَمَ اللونِ ثقيلَ العَيْنَيْنِ عظيمَهُمَا حَسَنَ الوجهِ رَبْعَةَ القَدِّ إلى القِصَرِ أقرب كثيرَ شعرِ الصَّدْرِ عظيمَ اللحيةِ أصلعَ الرأسِ كثيرَ التَّبَسُّمِ أَعْلَمَ الصَّحَابةِ فِى القَضَاءِ وَمِنْ أَشْجَعِهِم وَأَزْهَدِهِمْ فِى الدُّنيا لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطّ رَضِىَ اللهُ عنه.

كان رضِىَ اللهُ عنه وأرضاه غزيرَ العِلْمِ زاهدًا وَرِعًا شُجاعًا. وَيَكْفِيهِ خُصُوصِيَّةً أنه مِنَ المغفورِ لهم حيثُ جاءَ فِى الحديثِ عنه رضِىَ اللهُ عنه قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ غَفَرَ اللهُ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ قالَ قُلْ لا إله إلَّا اللهُ العَلِىُّ العظيم لا إلهَ إلَّا اللهُ الحليمُ الكريمُ لا إله إلَّا اللهُ سبحانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ[5] اهـ

وأَخَذَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِيَدِهِ عندَ غديرِ خُم فقالَ اللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ[6] اهـ.

وكان كرّمَ اللهُ وجْهَهُ لا يجِدُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا بَعْدَ أَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ صلَّى اللهُ عليه وسلم فِى خيبر قائلًا اللَّهُمَّ اكْفِهِ أَذَى الحَرِّ والبَرْدِ[7] اهـ فكان رضِىَ اللهُ عنه يخرجُ فِى البردِ فِى الملاءتينِ ويخرجُ فِى الحرّ فِى الحشوِ والثوبِ الغليظِ.

ولقد كان لسيدِنَا علِىّ رضِىَ اللهُ عنه وكرَّمَ وجهَهُ أقوالٌ ومواعظُ كثيرةٌ منها أنه قال إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اتّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الأَمَلِ فَأَمَّا اتّبَاعُ الْهَوَى فيصُدُّ عَنِ الْحقّ وَأمَّا طولُ الأمَلِ فيُنْسِى الآخِرَة[8]. وَقَالَ أَيْضًا ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَاب وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَل[9].

وبُويعَ لسيدنا علِىٍّ رضِىَ اللهُ عنه بالخلافةِ فِى ذِى الحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَاسْتَمَرَّتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ ابْتُلِىَ فيها بكثرةِ الأعداءِ فكانتِ الوَقَائِعُ الثَّلاثُ وَقْعَةُ الجَمَلِ مَعَ مَنْ نكَثُوا بَيْعَتَهُ وَوَقْعَةُ صِفِّين مَعَ معاويةَ وَوَقْعَةُ النَّهْرَوَانِ مَعَ الخوارجِ وكانَ يَسْتَعِدُّ لِلزَّحْفِ إلى الشامِ لاستِعَادَتِهَا تَحْتَ سُلْطَةِ الخِلافَةِ حِينَ كَمَنَ عَبْدُ الرحمنِ ابنُ مُلْجِم لسيدِنا علِىٍّ وهو خَارِجٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فوثَبَ عليه وضَرَبَهُ بسيفٍ مسمُومٍ فِى جَبْهَتِهِ فكانَتْ وفاةُ أميرِ المؤمنينَ علِىِّ بنِ أبِى طالبٍ رضِىَ اللهُ عنه وكرَّمَ اللهُ وجهَهُ فِى شهرِ رمضانَ سنةَ أربعينَ عنْ ثلاثٍ وستينَ سنة.

أخِى المسلم كُنْ محبًّا لمنْ أحبَّهُم اللهُ ورسولُه معظمًا لمن رفعَ اللهُ مِنْ شأنِهِم وأعلَى قدرَهُم وليَبْقَ حُبُّ الصحابةِ مُتَمَكِّنًا فِى قلبِكَ لا سيَّمَا الخلفاءِ الراشدينَ العامِلِينَ الوَرِعِينَ أبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وعثمانَ وعلِىٍّ رضِىَ اللهُ عنهُم وأرضاهم. اللهُمَّ امْلَأْ قُلُوبَنَا بِحُبِّكَ وَحُبِّ أَحْبَابِكَ وَاجْعَلْ وُلاةَ أمورِنَا مِنَ الصالحينَ العَامِلِينَ الوَرِعِينَ.

 

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ المؤمِنينَ خديجةَ وَحَفْصَةَ وعائِشَةَ الوَلِيَّةِ البَرَّةِ الطَّاهِرَةِ النَّقِيَّةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَرَّأَةِ وَسَائِرِ أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرِّجْسِ وءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلفاءِ الرَّاشدِينَ أبِي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعُمَرَ الفَارُوقِ الذي يَجْرِي الحَقُّ علَى لِسانِه وَقَلْبِه وَمَنْ قالَ فيهِ الرسولُ مَا لَقِيَكَ الشيطانُ سَالِكًا فَجًّا إِلّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك اهـ وعُثْمَانَ ذي النُّورَيْنِ وَعَلِىٍّ الكَرّارِ وعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أبِي حنيفَةَ ومَالِكٍ والشافِعِيِّ وأحمَدَ وعنِ الأولياءِ والصَّالحينَ أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتقوه.

واعلَمُوا أنَّ اللَّهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نَبِيّهِ الكريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾[10] اللَّهُمَّ صَلّ على محمَّدٍ وعلى ءالِ محمَّدٍ كمَا صلَّيْتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ وبارِكْ على محمَّدٍ وعلى ءالِ محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ اللَّهُمَّ ءاتِنَا فِى الدنيا حسنةً وفِى الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النارِ اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفَافَ والغِنَى اللهُمَّ مُصَرّفَ القُلُوبِ صَرّفْ قُلُوبَنَا على طَاعَتِكَ اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ ودَرْكِ الشَّقَاءِ وشَمَاتَةِ الأعدَاءِ اللهُمَّ أصلِحْ لنا دينَنَا الذِى هو عِصْمَةُ أمرِنَا وأَصْلِحْ لنا دُنيانَا التِى فيها مَعَاشُنَا وأصلِحْ لنا ءاخِرَتَنَا التِى فيها مَعَادُنَا واجْعَلِ الحيَاةَ زيادَةً لنا فِى كلّ خيرٍ واجعلِ الموتَ راحةً لنا مِنْ كلّ شرّ اللهُمَّ ءاتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا وزَكِّهَا أنتَ خيرُ مَنْ زَكَّاهَا أنتَ ولِيُّها ومَوْلَاها اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زوالِ نعمَتِكَ وتحوُّلِ عَافِيَتِكَ وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وجميعِ سَخَطِكَ اللهُمَّ اغفِرْ لنا ما قَدَّمْنَا وما أخَّرْنَا وما أسرَرْنَا وما أعْلَنَّا وما أنتَ أعلَمُ به منَّا أنتَ المقدّمُ وأنتَ المؤخّرُ وأنتَ علَى كلّ شَىءٍ قديرٌ اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بك مِنْ عِلمٍ لا ينفَعُ ومِنْ قلبٍ لا يخشَعُ ومِنْ نفسٍ لا تشبَعُ ومِنْ دَعوةٍ لا يُستجَابُ لها اللهُمَّ اكفِنَا بحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وأغْنِنَا بفضْلِكَ عَمَّنْ سِواك. عِبَادَ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اذكُرُوا اللهَ العظيمَ يذكركُم واشكُرُوه يزدكُم، واستغفِرُوهُ يغفِرْ لكُم واتَّقُوه يجعَلْ لكُم مِنْ أمرِكُم مخرَجًا وأَقِمِ الصلاةَ.

 

[1]  سورة التوبة/ءاية 119.

[2]  سورة الأحزاب/ءاية 23.

[3]  رواه أبو داودَ فى سُنَنِهِ وغَيْرُه.

[4]  رواه ابن حبان فِى صحيحه.

[5]  رواه الترمذِىُّ فِى سننه.

[6]  رواه أحمد فِى مسنده.

[7]  رواه النسائِىُّ فِى السنن الكبرى.

[8]  ذكره البيهقِىُّ فِى الزهد الكبير.

[9]  رواه البخارِىُّ فِى صحيحه.

[10]  سورة الأحزاب/ءاية 56.

عثمانُ بنُ عَفَّانَ رضي الله عنه ثالثُ الخلفاءِ الرَّاشِدين

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكُرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِىَ لهُ وأشهدُ أن لا إله إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا شبيه   ولا مثيل ولا ضد ولا ند له وأشهدُ أنّ سَيّدَنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمّدًا عبدُه ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمين هادِيًا ومُبشرًا ونذيرًا. اللهم صلّ وسلّمْ على سيدنا محمدٍ وعلَى ءالِه الطيبينَ وأصحابِهِ الميامِين حُماةِ الحقّ والدّين.

أما بعد عبادَ اللهِ فَإِنِّي أوصيكم ونَفْسِيَ بتقوى اللهِ العليِّ العظيمِ القائلِ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ ﴿مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَال صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلا ٢٣﴾[1] وقالَ رسولُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ[2] اهـ

إِنَّ الخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كانوا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ العِلْمِ الذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ. وَأَفْضَلُهُمْ الخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ أَبُو بكرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. وَمُدَّةُ خِلافَتِهِمْ كَانَتْ نَحْوًا مِنْ ثَلاثِينَ سَنَة. وحَدِيثُنا اليَوْمَ عَنْ أميرِ المؤمنينَ عثمانَ بنِ عَفَّانَ رضي الله عنه. هو أبو عبدِ اللهِ عثمانُ بنُ عفانَ بنِ أَبِي العَاصِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قُصَيٍّ القُرَشِيُّ وَأُمُّهُ أَرْوَىَ بِنْتُ كُرَيْز. لُقِّبَ رضي الله عنه بِذِي النُّورَيْنِ لِأَنَّهُ تزوجَ بِنْتَيْ سَيِّدِ الكَوْنَيْنِ رُقَيَّةَ ثُمَّ أُمَّ كُلثوم بعدَ وفاةِ أُخْتِهَا وكان رضيَ الله عنه رَبْعَةً لَيْسَ بِالقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ حَسَنَ الوَجْهِ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍكَثَّ اللحْيَةِ طَوِيلَ الذِّرَاعَيْنِ شَعَرُهُ كَسَا ذِرَاعَيْهِ قَدْ شَدَّ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ.

وُلدَ في السنةِ السادسةِ منَ الفيلِ وَقَدْ أَسْلَمَ قديمًا على يدِ أبي بكرِ رضي الله فهو مِنَ السابقينَ الأولينَ هاجرَ الهجرتينِ الأولى مِنْ مَكَّةَ إلى الحَبَشَةِ والثانِيَة مِنْ مَكَّةَ إلَى المدِينَةِ. وشَهِدَ المشاهِدَ كُلَّهَا معَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بَدْرًا لأنَّ زَوْجَتَهُ رُقَيَّةَ كانَتْ مَرِيضَةً فأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أن يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ لِيُمَرِّضَهَا وَقَدْ عَدَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. بُويِعَ لَهُ بِالخِلافَةِ بعدَ دَفْنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنه بثلاثِ لَيَال. وفي عَهْدِه دَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الإِسْلامِ وَللهِ الحَمْد.

وأما فضائلهُ ومَآثِرُه رضيَ الله عنه فهيَ كثيرةٌ جِدًّا وَمِنْهَا أَنهُ سنةَ ثَلاثِينَ خَافَ أَنْ يَقَعَ اخْتِلَافٌ في القُرْءَانِ فَجَمَعَ الصَّحابةَ وَنَسَخُوا أَرْبَعَةَ مَصَاحِفَ أَوْ خَمْسَةً مِنَ الْمُصْحَفِ الذِي كانَ قَدْ جَمَعَهُ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه ثم بَعَثَ إلى كُلِّ أفُقِ مِنَ الآفاقِ بِمُصْحَفٍ يَكُونُ مَرْجِعًا وَعُمْدَةً يعتمدونَ عليهِ فَلَمْ يَقَعْ وَللهِ الحمدُ خِلَافٌ فِي القُرْءَانِ أبدا.

وأما زهدُه في الدنيا وإنفاقُهُ المالَ في سبيلِ اللهِ فَقَدْ رَوَى الترمذيُّ في سُنَنِهِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فحثَّ على الإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ عُثْمَانُ عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلاَسِهَا وَأَقْتَابِهَا أي ما يوضع على ظُهُورها مِنْ كِسَاءٍ وَرَحْلٍ للركوبِ في سبيلِ اللهِ ثُمَّ حَثَّ أي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُثْمَانُ عَلَيَّ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَحْلاَسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ حَثَّ عَلَيه الصلاةُ والسلامُ فَقَالَ عُثْمَانُ عَلَيَّ ثَلاَثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلاَسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ قال الرَّاوِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ عَنِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ اهـ وقالَ شُرَحْبِيلُ بنُ مُسلمٍ كانَ عُثْمَان ُرضي اللهُ عنهُ يُطْعِمُ النَّاسَ طَعامَ الإِمَارَةِ وَيَدْخُلُ بَيْتَهُ فَيَأْكُلُ الخَلَّ وَالزَّيْتَ.[3]

Continue reading عثمانُ بنُ عَفَّانَ رضي الله عنه ثالثُ الخلفاءِ الرَّاشِدين