Category Archives: خطب الجمعة

الدين النصيحة

الحمدُ للهِ ذي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ الذِي أَعَزَّنَا بِالْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَنَا بِالإِيمانِ وَنَوَّرَ قُلُوبَنا بِالْقُرْءَانِ والصَّلاةُ والسلامُ على سيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانَ سَيِدِنا محمدٍ أَبِي القَاسِمِ الذِي عَلَا النُّجُومَ وَالْكَوَاكِبَ العِظَامَ وعلَى ءالِهِ وَأَصْحَابِهِ الكِرَامِ بُدُورِ التَّمَامِ، وَمَصَابِيحِ الظَّلَامِ وَشُمُوسِ دِينِ الإِسْلامِ الذينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ وَكَانُوا بَعْدَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ورَضِيَ عَنْهُمْ قُدْوَةً لِلْأَنَامِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مَثِيلَ لَهُ وَلَا ضِدَّ وَلَا نِدَّ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا محمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَحَبِيبُهُ، اللهمَّ صَلِّ علَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعلَى سَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وءالِ كُلٍّ وَصَحْبِ كُلٍّ وَسَلِّمْ.

أمَّا بعدُ عِبَادَ اللهِ فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَظِيمِ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَأُحَذِّرُكُمْ مِنْ عِصْيَانِهِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ مَنِ اسْتَبْدَلَ بِالطَّاعَةِ الْمَعْصِيَةَ وَءَاثَرَ الفَانِيَةَ علَى البَاقِيَةِ يَقُولُ اللهُ تباركَ وتعالَى في القُرْءَانِ العَظِيمِ ﴿وَٱلعَصرِ ١ إِنَّ ٱلإِنسَٰنَ لَفِي خُسرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَواْ بِٱلحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبرِ ٣﴾[1]

اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ للهِ تباركَ وتعالى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَقَدْ أَقْسَمَ في هذِهِ السُّورَةِ بِالعَصْرِ وَمَعْنَى العَصْرِ الدَّهْرُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاللهُ أَقْسَمَ أَنَّ كلَّ إِنْسَانٍ خَاسِرٌ وَاسْتَثْنَى الذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الخَاسِرينَ وَهَذَا وَصْفُ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ الذينَ عَمِلُوا بِوَصَايَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأْتَمَرُوا بِأَوَامِرِهِ فتَعَلَّمُوا وَعَمِلُوا وَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا وَخُصُوصًا السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الصحابةِ الذينَ مَدَحَهُمُ اللهُ تباركَ وتعالَى فقالَ ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلمُهَٰجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحسَٰن رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنهُم وَرَضُواْ عَنهُ﴾[2] وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللهُ تبَارَكَ وتعالَى أَنَّهُ رَاضٍ عَنْهُمْ لأَنَّهُمْ صَدقُوا وَءامَنُوا وَتَعَلَّمُوا وَعَمِلُوا وَنَصَحُوا وَانْتَصَحُوا، فَحَرِيٌ بِنَا أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرَامُ أَنْ نَقْتَدِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَقْتَدِيَ بِصَحَابَتِهِ الكِرَامِ الّذِينَ كَانُوا يَنْصَحُ أَحَدُهُمُ الآخَرُ لِوَجْهِ اللهِ فَيَنْصَحُ الأَخُ أخَاهُ والصَّاحِبُ صَاحِبَهُ، وكانَ الوَاحِدُ مِنْهُمْ مِرْءَاةً لِأَخِيهِ المسلمِ يُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَإِنْ رَأَى فيهِ عَيْبًا سَارَعَ إلَى تَقْدِيمِ النُّصْحِ لَهُ وَالْمَوْعِظَةِ ابْتَغَاءً لِمَرْضَاةِ اللهِ وكانَ الْمَنْصُوحُ مِنْهُمْ بِالْمُقَابِلِ لَا يَتَرَفَّعُ عَنْ قَبُولِ النَّصِيحَةِ لأَنَّهُمْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَمَعُوا النَّصِيحَةَ وشَكَرُوا النَّاصِحَ وَعَمِلُوا بِهَا كانَ انْتِفَاعُهُمْ بِذَلِكَ عَظِيمًا وقَدْ قَالَ أَحَدُ السَّلَفِ إِنْ رَأَيتَ مَنْ يَدُلُّكَ علَى عُيُوبِكَ فَتَمَسَّكْ بِأَذْيَالِهِ اهـ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ رَحِمَ اللهُ امْرَءًا أَهْدَى إِلَيَّ عُيوبِي اهـ ولَقَدْ كانَ الصحابةُ الكِرَامُ إذَا الْتَقَى الوَاحِدُ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ يَتَصَافَحَانِ معَ طَلَاقَةِ الوَجْهِ وَالابْتِسَامَةِ وَيَقْرَؤُونَ سورةَ العَصْرِ لِمَا حَوَتْهُ هذهِ السورَةُ مِنَ المعانِي العَظِيمَةِ الجَلِيلَةِ،كَانُوا يَتَواصَوْنَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيُذَكِّرُونَ بَعْضَهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَبِالالتِزَامِ بِأَوامِرِهِ وَبِالحَقِّ الذِي جَاءَ بهِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً بِإِخْوَانِهِمْ وَقَدْ جَاءَ في وَصْفِهِمْ قَوْلُ اللهِ تباركَ وتعالَى فى سورةِ الفَتْح ﴿رُحَمَاءُ بَينَهُم﴾[3] وهَذَا مَا عَلَّمَهُمْ إياهُ سيدُ الْمُرْسَلِينَ مُحمَّدٌ عليهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

إخوةَ الإيمانِ لَقَدْ كَانَ لنا في رَسُولِ اللهِ وصَحَابَتِهِ الكِرَامِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فعَلَيْنَا بِالتَّنَاصُحِ وَالتَّوَاصِي بِتَقْوَى اللهِ العَظِيمِ وَالعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَ وَقَبُولِ النَّصيحةِ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قِيلَ لِمَنْ فَقالَ للهِ ولِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ اهـ

Continue reading الدين النصيحة

الحذر من الإفتاء بغير علم

الحمدُ للهِ الّذِي عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَقَيَّضَ لِهَذَا الدِّينِ رِجَالًا يُفْتُونَ بِعِلْمٍ فَإِذا لَمْ يَعْلَمُوا لَمْ يغفلوا لَا أَعْلَمُ، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهدِ اللهُ فلا مُضلَّ لَه ومَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شريكَ لَهُ وَلَا شَىْءَ مِثْلُهُ وَلا شَىءَ يُعْجِزُهُ، لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ وَلَا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ وَلَا يُشْبِهُ الأَنَام. وأشهدُ أنَّ سيّدَنا محمدًا عبدُ اللهِ الْمُصْطَفَى وَنَبِيُّهُ الـمُجْتَبَى ورسولُهُ الـمُرْتَضَى، وأَنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ المرسلينَ وحَبِيبُ رَبِّ العالَمين. فَصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ وعلَى ءالِهِ الطَّاهِرِينَ وصحابَتِهِ الـطَّيِّبِينَ وَسَلَّمَ.

أما بعدُ فَأُوصِي نَفْسِي وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ أَلَا فَاتَّقُوه وَخَافُوه وَأْتَمِرُوا بِأَوَامِرِهِ وَانْتَهُوا عَنْ نَواهِيهِ واثْبُتُوا علَى هَدْيِ النبِيِّ محمدٍ عليهِ أفضَلُ الصَّلاةِ وأَتَمُّ التَّسْلِيم.

اعلَمُوا إِخْوَةَ الإِيمَانِ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعالَى سَائِلٌ عَبْدَه يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ كلامِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفُؤَادِهِ وَأَنَّ اللهَ سَائِلٌ عَبْدَه عَنْ قَوْلِهِ في الدُّنْيَا هَذَا يَجُوزُ وهذَا لَا يَجُوزُ فقَدْ قالَ رَبُّنا تبارك وتعالى في القُرءانِ الكَريم ﴿وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِۦ عِلمٌ إِنَّ ٱلسَّمعَ وَٱلبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ كَانَ عَنهُ مَسْؤُلاً ٣٦﴾[1] أَيْ لَا تقُلْ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَالفَتْوَى بغيرِ عِلْمٍ مِنَ الذنوب كبيرة، رَوَى الحَافِظُ ابنُ عَسَاكرَ[2] أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ ملائكَةُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ اهـ فَإِذا كانَ الأَمْرُ كذلكَ إِخْوَةَ الإيمانِ فَمَا مَعْنَى أَنْ يُفْتِىَ بِعِلْمٍ، وَاسْمَعُوا مَعِي فَإِنَّ الذِي يُفْتِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا في الفُتْيَا لِمُجْتَهِدٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَجَرِّئًا علَى الفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ. أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَهُوَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتِهَادِ أَيْ مَنْ يَجُوزُ لهُ ذلكَ بِنَاءً عَلَى صِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ وَشُرُوطٍ لَا بُدَّ أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ، وَهِيَ ليسَتْ موجودَةً في أَغْلَبِ أَهْلِ العَصْرِ. قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمهُ الله ولا يكونُ الشَّخْصُ أَهْلًا لِلاجْتِهَادِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ السُّنَنِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلافِ العُلَمَاءِ حَتَّى لَا يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ، وَأَنْ يكُونَ عَالِمًا بِلُغَةِ العَرَبِ وَمَعَانِي مَا وَرَدَ في النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ علَى وَفْقِ كَلَامِ العَرَبِ. ويُشْتَرَطُ في الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ حافِظًا لآياتِ الأحكامِ وأحاديثِ الأحكامِ ومع معرفَةِ أسانيدِها ومعرفةِ أحوالِ رِجالِ الإِسْنَاد وَمَعْرِفَةِ النّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ والعَامِّ والخَاصِّ وَالْـمُطلَقِ وَالْـمُقَيَّدِ مَعَ فِقْهِ النَّفْسِ أَيْ قُوَّةِ الفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ وَمَعَ العَدَالَةِ، فَمِثْلُ هَذَا إِنْ أَفْتَى يُفْتِي عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ. وَأَيْنَ يُوجَدُ مَنْ يَجْمَعُ كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ في هَذَا الزَّمَنِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الشَّخْصُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَيَعْتَمِدُ علَى فَتْوَى إِمَامٍ مُجْتَهِدٍ أَيْ ينقُلُ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسْأَلَة. وأَمَّا مَنْ تَسَوَّرَ مَرْتَبَةً لَيْسَ أَهْلًا لَهَا فَصَارَ يُفْتِي النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، صارَ يُفْتِي الناسَ على وَفْقِ هَواهُ فَهُوَ خَائِبٌ خَائِنٌ يَفْضَحُهُ اللهُ تباركَ وتعالى في الدُّنيا قَبْلَ الآخِرَةِ كَمَا قَالَ إِمَامُنَا الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ مَنْ سَامَ بِنَفْسِهِ فَوْقَ مَا يُسَاوِي رَدَّهُ اللهُ تعالَى إِلَى قِيمَتِه[3] اهـ

Continue reading الحذر من الإفتاء بغير علم

الحث على طلب العلم وبيان الفرض العيني من علم الدين

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهدِيهِ ونشكرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شرِيكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا جهةَ لهُ ولا فوْق ولا تحت ولا يمينَ ولا شِمالَ ولا أمامَ ولا خلفَ لهُ، أشهدُ أنَّ اللهَ على كلِّ شىءٍ قديرٌ وأنّهُ قدْ أحاطَ بكلِّ شىءٍ عِلمًا. وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ، بلّغَ الرِّسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصحَ الأمّةَ فجزاهُ اللهُ عنّا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائهِ. اللهمّ صلِّ على سيِّدنا محمّدٍ صلاةً تقضي بها حاجاتِنا وتفرِّجُ بها كُرُباتِنا وتكفِيْنا بها شرَّ أعدائنا وسلِّمْ عليهِ وعلى ءالِهِ وإخوانِه النّبيِّينَ والمرسلينَ سلامًا كثيرًا.

أما بعدُ، فيقولُ ربُّ العزة في محكمِ التّنْزيلِ ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَد وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ ١٨﴾[1]. فاتّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، اتّقوا اللهَ العزيزَ الحكيمَ القَوِيَّ الْمَتِينَ وَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ العظيمِ الذي جاءَ فيهِ ﴿يَرفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلعِلمَ دَرَجَٰت وَٱللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِير ١١﴾ الآية[2].

إخوةَ الإِيمانِ، لَقَدْ رَفَعَ اللهُ تَعَالَى دَرَجَةَ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِفَضْلِ العِلْمِ وَشَرَفِهِ فَعِلْمُ الدِّينِ هُوَ حَيَاةُ الإسلامِ، وعلمُ الدّينِ عَلَى قِسْمَيْنِ، قِسْمٌ يَجِبُ علَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ وَقِسْمٌ إذَا قَامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ الإِثْمُ عنِ البَاقِينَ، فَالثَّانِي هُوَ الفَرْضُ الكِفَائِيُّ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ بِحَيْثُ تَحْصُلُ الكِفَايَةُ، أَمَّا القِسْمُ الأَوَّلُ فَهُوَ الفَرْضُ العَيْنِيُّ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم “طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ” أَيْ وَمُسْلِمَةٍ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ الحَافِظُ المزِّيُّ.

وهذَا القِسْمُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا لِأَقْسَامٍ فَمِنْهُ ضَرُورِيَّاتٌ فِي الاعتِقَادِ أَيْ مَا لَا يَجُوزُ علَى الْمُكَلَّفِ جَهْلُهُ مِنَ الأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالعَقِيدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ كَتَنْزِيهِ اللهِ عَنِ الجِسْمِيَّةِ وَالشَّكْلِ وَاللَّونِ وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَغَيرِ ذلكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقينَ وَكَمَعْرِفَةِ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ الأَنْبِيَاءَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ مَا فِيهِ فَوْزُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَنَّهُ أَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ علَى نُبُوَّتِهِمْ وَحَفِظَهُمْ مِنَ الكُفْرِ وَالكَبَائِرِ وَكُلِّ الخَسَائِسِ.

Continue reading الحث على طلب العلم وبيان الفرض العيني من علم الدين

المعجزة

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ ِمنْ شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشّرًا ونذيرًا بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جَزى نبيًّا مِنْ أنبيائهِ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على سيّدِنا محمدٍ الأمينِ وعلى ءالِه وصحبهِ الطيِّبينَ الطَّاهرِين.

أمَّا بعدُ فيَا عبادَ اللهِ أُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ. يقولُ اللهُ تباركَ وتعالَى في كِتابِه الكَريمِ لِحَبيبهِ المصطفَى ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدعُواْ رَبَّكُم يُخَفِّف عَنَّا يَوما مِّنَ ٱلعَذَابِ ٤٩ قَالُواْ أَوَ لَم تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم بِٱلبَيِّنَٰتِ قَالُواْ بَلَىٰ قَالُواْ فَٱدعُواْ وَمَا دُعَٰؤُاْ ٱلكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ ٥٠﴾[1].

إخوةَ الإِيمانِ لَقَدْ أَيَّدَ اللهُ كُلَّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبيائِهِ بِالبَيِّناتِ مِنَ الحُجَجِ وَالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ دِلالَةً قَاطِعَةً علَى نُبُوَّتِهِ وَالشاهِدَةِ شَهَادَةً ظاهِرَةً علَى صِدْقِهِ فَالْمُعْجِزَةُ هِيَ العَلامَةُ وَالدَّليلُ علَى صِدْقِ الأَنبياءِ في دَعْوَاهُمُ النُّبُوَّةَ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلّا وَكانَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ وهِىَ أَمْرٌ خَارِقٌ للعادَةِ أىْ مُخَالِفٌ لِلعادَةِ يأتِي علَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوُا النبوةَ، سالِمٌ مِنَ الْمُعارَضَةِ بِالْمِثْلِ صَالِحٌ لِلتَّحَدِّى، فَمَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقًا لِدَعْوَى النبوةِ لا يُسَمَّى مُعْجِزَةً، كَالَّذِي حَصَلَ لِمُسَيْلِمَةِ الكَذَّابِ الّذِى ادَّعى النبوَّةَ مِنْ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى وَجْهِ رَجُلٍ أَعْوَرَ فَعَمِيَتِ العَيْنُ الأُخْرَى، فَإِنَّ هذَا الذِي حَصَلَ لَهُ مُنَاقِضٌ لِدَعْوَاهُ يَدُلُّ علَى كَذِبِهِ في دَعْوَاهُ وَلَيْسَ مُوافِقًا لَها.

ولَيْسَ مِنَ المعجِزَةِ مَا يُسْتَطاعُ مُعارَضَتُه بِالْمِثْلِ كَالسِّحرِ فَإِنَّهُ يُعارَضُ بِسِحْرٍ مِثْلهِ. وَقَدْ تَحدَّى فِرعونُ سَيِّدَنا موسَى عليهِ السلامُ، فجَمَعَ سبعينَ ساحِرًا مِنْ كِبَارِ السَّحَرَةِ الذِينَ عِندَهُ، فَأَلْقَوُا الحِبَالَ التِي فِي أَيْدِيهِمْ، فَخُيِّلَ لِلنَّاسِ أَنَّهَا حَيَّاتٌ تَسْعَى، فَأَلْقَى سَيِّدُنا موسَى عليهِ السلامُ بِعَصَاهُ، فَانْقَلَبَتِ العَصَا ثُعْبانًا حَقِيقِيًّا كَبِيرًا أَكَلَ تلكَ الحِبالَ التِي رَمَاهَا السَّحرةُ، فَعرفَ السحرةُ أنَّ هذَا ليسَ من قَبِيلِ السِّحرِ وإنما هوَ أمرٌ خارِقٌ لِلْعَادَةِ لا يستطيعونَ مُعارَضَتَهُ بِالمثلِ أظهرَهُ لسيِّدِنا موسى عليه السلام خالِقُ العالَمِ الذِى لا شَريكَ له ولا مَثيلَ تأيِيدًا لسيِّدِنا موسى عليه السلام، فَقَالُوا ءَامنَّا برَبِّ موسى وهارون، فَغَضِبَ فرعونُ لأنَّهم ءامَنُوا قبلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ وتركُوا مَا كانُوا عليهِ فَهَدَّدَهُمْ وَأَضْرَمَ لهم نَارًا كَبيرَةً فَلَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الإِيمانِ برَبِّ موسى وهارونَ فَقتَلَهُمْ. ثمَّ ما كانَ مِنَ الأُمورِ عَجِيبًا وَلَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلعادَةِ فَلَيْسَ بِمُعجِزَةٍ، وَكذلكَ مَا كانَ خَارِقًا لكنه لَمْ يَقْتَرِنْ بدَعْوَى النبوَّةِ كالخوَارِقِ التِي تَظْهَرُ علَى أيدِي الأَولياءِ الذِينَ اتَّبَعُوا الأَنبياءَ اتِّباعًا كَامِلا، فَإِنَّهُ لا يُسَمَّى مُعْجِزَةً لهؤلاءِ الأَولياءِ بَلْ يُسَمَّى كرامَةً.

Continue reading المعجزة