المعجزة

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ ِمنْ شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشّرًا ونذيرًا بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جَزى نبيًّا مِنْ أنبيائهِ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على سيّدِنا محمدٍ الأمينِ وعلى ءالِه وصحبهِ الطيِّبينَ الطَّاهرِين.

أمَّا بعدُ فيَا عبادَ اللهِ أُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ. يقولُ اللهُ تباركَ وتعالَى في كِتابِه الكَريمِ لِحَبيبهِ المصطفَى ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدعُواْ رَبَّكُم يُخَفِّف عَنَّا يَوما مِّنَ ٱلعَذَابِ ٤٩ قَالُواْ أَوَ لَم تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم بِٱلبَيِّنَٰتِ قَالُواْ بَلَىٰ قَالُواْ فَٱدعُواْ وَمَا دُعَٰؤُاْ ٱلكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ ٥٠﴾[1].

إخوةَ الإِيمانِ لَقَدْ أَيَّدَ اللهُ كُلَّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبيائِهِ بِالبَيِّناتِ مِنَ الحُجَجِ وَالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ دِلالَةً قَاطِعَةً علَى نُبُوَّتِهِ وَالشاهِدَةِ شَهَادَةً ظاهِرَةً علَى صِدْقِهِ فَالْمُعْجِزَةُ هِيَ العَلامَةُ وَالدَّليلُ علَى صِدْقِ الأَنبياءِ في دَعْوَاهُمُ النُّبُوَّةَ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلّا وَكانَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ وهِىَ أَمْرٌ خَارِقٌ للعادَةِ أىْ مُخَالِفٌ لِلعادَةِ يأتِي علَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوُا النبوةَ، سالِمٌ مِنَ الْمُعارَضَةِ بِالْمِثْلِ صَالِحٌ لِلتَّحَدِّى، فَمَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقًا لِدَعْوَى النبوةِ لا يُسَمَّى مُعْجِزَةً، كَالَّذِي حَصَلَ لِمُسَيْلِمَةِ الكَذَّابِ الّذِى ادَّعى النبوَّةَ مِنْ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى وَجْهِ رَجُلٍ أَعْوَرَ فَعَمِيَتِ العَيْنُ الأُخْرَى، فَإِنَّ هذَا الذِي حَصَلَ لَهُ مُنَاقِضٌ لِدَعْوَاهُ يَدُلُّ علَى كَذِبِهِ في دَعْوَاهُ وَلَيْسَ مُوافِقًا لَها.

ولَيْسَ مِنَ المعجِزَةِ مَا يُسْتَطاعُ مُعارَضَتُه بِالْمِثْلِ كَالسِّحرِ فَإِنَّهُ يُعارَضُ بِسِحْرٍ مِثْلهِ. وَقَدْ تَحدَّى فِرعونُ سَيِّدَنا موسَى عليهِ السلامُ، فجَمَعَ سبعينَ ساحِرًا مِنْ كِبَارِ السَّحَرَةِ الذِينَ عِندَهُ، فَأَلْقَوُا الحِبَالَ التِي فِي أَيْدِيهِمْ، فَخُيِّلَ لِلنَّاسِ أَنَّهَا حَيَّاتٌ تَسْعَى، فَأَلْقَى سَيِّدُنا موسَى عليهِ السلامُ بِعَصَاهُ، فَانْقَلَبَتِ العَصَا ثُعْبانًا حَقِيقِيًّا كَبِيرًا أَكَلَ تلكَ الحِبالَ التِي رَمَاهَا السَّحرةُ، فَعرفَ السحرةُ أنَّ هذَا ليسَ من قَبِيلِ السِّحرِ وإنما هوَ أمرٌ خارِقٌ لِلْعَادَةِ لا يستطيعونَ مُعارَضَتَهُ بِالمثلِ أظهرَهُ لسيِّدِنا موسى عليه السلام خالِقُ العالَمِ الذِى لا شَريكَ له ولا مَثيلَ تأيِيدًا لسيِّدِنا موسى عليه السلام، فَقَالُوا ءَامنَّا برَبِّ موسى وهارون، فَغَضِبَ فرعونُ لأنَّهم ءامَنُوا قبلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ وتركُوا مَا كانُوا عليهِ فَهَدَّدَهُمْ وَأَضْرَمَ لهم نَارًا كَبيرَةً فَلَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الإِيمانِ برَبِّ موسى وهارونَ فَقتَلَهُمْ. ثمَّ ما كانَ مِنَ الأُمورِ عَجِيبًا وَلَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلعادَةِ فَلَيْسَ بِمُعجِزَةٍ، وَكذلكَ مَا كانَ خَارِقًا لكنه لَمْ يَقْتَرِنْ بدَعْوَى النبوَّةِ كالخوَارِقِ التِي تَظْهَرُ علَى أيدِي الأَولياءِ الذِينَ اتَّبَعُوا الأَنبياءَ اتِّباعًا كَامِلا، فَإِنَّهُ لا يُسَمَّى مُعْجِزَةً لهؤلاءِ الأَولياءِ بَلْ يُسَمَّى كرامَةً.

إخوةَ الإِيمانِ لَقَدْ جَعَلَ اللهُ هذَا العَالَمَ علامَةً علَى وُجودِهِ وشاهِدًا على عَظِيمِ قُدرَتِهِ ودَليلًا قَاطِعًا علَى أنهُ مُدَبِّرُ العالَمِ وأنهُ لا شَريكَ لهُ في ذلكَ وَأَنَّ كلَّ ما يَحْدُثُ فِي هذَا العالَمِ إنَّمَا يحصُلُ بقُدْرَتِهِ ومشيئَتِهِ وعِلْمِهِ وأَنَّهُ لا مُبْرِزَ لِشَىءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مُخْرِجَ لَها مِنَ العَدمِ إلى الوجودِ إِلَّا هُو، فَمَا حَصَلَ مِنْ خَرْقِ العَادَاتِ للأَنبياءِ هُو بفِعلِ اللهِ وقُدرَتِهِ أظْهرَها اللهُ لَهُمْ تأييدًا لَهُمْ علَى صِدقِ دعواهُمْ وهى تَقومُ مقامَ قَولِ اللهِ لِلخَلْقِ صَدَقَ عَبْدِى هَذَا في دَعْوَاهُ النبوَّةَ، فقومُ صالحٍ مثلًا لَمَّا قالُوا لَهُ إِنْ كنتَ نبيًّا فَأَخْرِجْ لَنَا مِنَ الصخرةِ الصَّمّاءِ ناقةً معَ فَصيلِها فأَخرجَها لَهُمْ أَىْ بِإِذْنِ اللهِ فهذَا الأَمْرُ إِنَّما حَصَلَ بِقُدْرَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَهَذَا الأَمْرُ كانَ تَصْدِيقًا لِنَبِىِّ اللهِ صَالِحٍ تأييدًا لَهُ كأَنَّ اللهَ قالَ لَهُمْ نَعَمْ هُوَ صَادِقٌ في ما يَقُولُ وَهَكذا سائِرُ مُعجِزَاتِ الأَنبياءِ أَظْهَرَها اللهُ لَهُمْ دَليلًا على صِدْقِهِمْ فَمَنْ كذَّبَهُم فقَدْ كَذَّبَ اللهَ تعالَى. ثُمَّ هذهِ المعجزاتُ كمَا أَنَّهَا دليلٌ قَاطِعٌ علَى صدقِ الأنبياءِ بِالنسبَةِ لِمَنْ شَهِدُوها فَهِىَ كَذلكَ حُجَّةٌ علينَا لأنَّ قسمًا منهَا بَلَغَنَا بِطَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ هُوَ التَّواتُرُ.

وأما قولُ بعضِ الْمُلْحِدِينَ إِنَّ مَا أتَى بهِ الأنبياءُ مِنَ الْمُعجزاتِ هُوَ مِنْ قَبيلِ السِّحرِ والخِدَاعِ، فبُطلانُه ظاهرٌ لأنَّ السحرَ يُعارضُ بالمِثْلِ كما ذَكَرْنَا، وهذَا الذِي يُظهِرُهُ اللهُ تعالَى على أيدِي الأنبياءِ مِنَ الخوارقِ لا يُعارَضُ بِالْمِثلِ مِنْ قِبَلِ الْمُنكِرِ والْمُخَالِفِ فَهَلِ اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِنَ الْمُكَذِّبينَ المعارِضينَ للأنبياءِ في عصورِهم وفيمَا بعدَ ذلكَ إلَى يَومِنا هذَا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ ما أَتى به نبيُّ اللهِ صالِحٌ مِنْ إِخراجِ الناقةِ وولدِها مِنَ صَخْرَةٍ صمَّاءَ حينَ اقتَرَحَ قومُه عليهِ ذَلك. وَهَلِ اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ نَارًا عَظيمَةً كالنارِ التِي رُمِيَ فيهَا نبِيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه السلام ثم يخرج منها سالِمًا لم يَمَسَّهُ أيُّ سُوء، وهلِ استطاعَ أحدٌ منهم أَنْ يَفْعَلَ ما فَعَلَ نبيُّ اللهُ موسى عليه السلام مِنْ ضَرْبِ البَحْرِ بِعَصَاهُ فَيَنْفَرِقُ اثنَىْ عَشَرَ فِرْقًا كُلُّ فِرْقٍ كَالجَبَلِ العَظِيمِ، وهلِ استطاعَ الذينَ عَارَضُوا المسيحَ وقابَلُوهُ بِالتَّكذيبِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مُعجِزَتِهِ مِنْ إِبْرَاءِ الأَكْمَهِ بِلا عِلاجٍ وَهَلْ يَسْتَطِيعٌ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الإِلحادِ أَنْ يُنْطِقَ جِذْعًا نُصِبَ عَمُودًا فِي جُمْلَةِ أَعْمِدَةِ بِناءٍ بِصَوْتِ بُكَاءٍ مَسْمُوعٍ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ كَمَا ظَهَرَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

فمُعجزاتُ الأَنبياءِ ثَابِتَةٌ قَطْعًا وَهِىَ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ قَاطِعٌ علَى صِدْقِهِمْ فَوَجَبَ الإِذعانُ لَهُمْ فِيمَا دَعَوْا إِلَيْهِ وَالإِيمانُ بِهِمْ جَمِيعًا وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَخاتَمِهِمْ سَيِّدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم فمَا مَآلُ الْمُكَذِّبينَ بِهِ إِلّا الخُسرانُ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا كَمَا هُوَ حَالُ مَنْ كَذَّبَ بِمَنْ سَبَقَهُ مِنَ الأَنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُه عليهِمْ أَجمعينَ.

 

هذا وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكم.

الخُطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ المؤمِنينَ وءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلفاءِ الرَّاشدِينَ أبِي بكرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أبِي حنيفَةَ ومَالِكٍ والشافِعِيِّ وأحمَدَ وعنِ الأولياءِ والصَّالحينَ أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتقوه.

واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ والسلامِ علَى نَبِيِّهِ الكَريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيهِ وَسَلِّمُواْ تَسلِيمًا٥٦﴾[2]، اللهُمَّ صَلِّ على مَحمَّدٍ وعلَى ءالِ محمدٍ كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ وبَارِكْ عَلَى محمَّدٍ وعلَى ءالِ محمدٍ كمَا باركتَ على إبراهيمَ وعلَى ءالِ إبراهيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيدٌ، اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمَّ ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ وأَدْخِلْنَا الجنَّةَ مَعَ الأَبْرَارِ يَا عَزِيزُ يَا غَفَّار اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا.

عبادَ الله، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَقِمِ الصلاةَ.

 

[1] سورة غافر.

[2] سورة الأحزاب/56.