شرحُ حديثِ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً

الحمدُ لله الذي أَكْمَلَ لنا الدِّينَ وَأَتَمَّ علَيْنَا النِّعْمَة، وجعلَ أمَّتَنا وللهِ الحمدُ خيرَ أُمّة، وبعثَ فينَا رَسولا مِنّا يتلُو علينَا ءاياتِه ويُزَكِّينَا ويُعَلِّمُنا الكتابَ والحِكمة. أحمدُه على نِعَمِهِ الجَمَّة؛ وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً تكونُ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِها خيرَ عِصْمَةٍ وأشهَدُ أن سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَهُ للعالَمِينَ رَحْمَةً وفَرضَ عليهِ بيانَ ما أنزلَ إلينَا فأَوْضَحَ كُلَّ الأُمورِ المهمَّةِ فَأَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ صلَّى الله عليه وعلى ءاله وأصحابِه أولِي الفَضلِ والهِمّة.

أما بعد عبادَ اللهِ … فإنِّي أُوصِي نفسِي وإِياكُم بتقوى اللهِ العظيمِ والتزامِ نهجِ النبِيِّ الكريمِ والصَّبْرِ علَى البَلَاءِ والثَّبَاتِ علَى الهُدَى والتّوَكُّلِ على اللهِ والثِّقَةِ باللهِ:

أَلا بِالصَّبْرِ تَبْلُغُ مَا تُرِيد     وبِالتَّقْوَى يَلينُ لكَ الحَدِيد

رَوَى مُسلمٌ في صحيحِه عن أبِي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ قالَ رسولُ صلى الله عليه وسلم مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عنهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرَةِ ومَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سترَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ واللهُ في عَوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بهِ طَرِيقًا إلَى الجنّةِ اﻫ

فقولُه صلّى الله عليه وسلم من نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ اللهُ عنهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَة اﻫ هذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الجزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَل، وَالكُرْبَةُ هِيَ الشِّدَّةُ العظيمةُ التِي تُوقِعُ صاحِبَهَا فِي الكَرْبِ، وتَنْفِيسُها أَنْ يُخَفَّفَ عنهُ منها والتَّفريجُ أعظمُ مِنْ ذلكَ وهو أَنْ تُزالَ عنهُ الكُربَةُ فيَزُولُ هَمُّه وَغَمُّهُ، فَجَزَاءُ التَّنْفِيسِ التَّنْفِيسُ وجزاءُ التَّفْرِيجِ التَّفْرِيجُ.

وأخرجَ البيهقيُّ مِنْ حديثِ أنسٍ مرفوعًا أن رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يُشْرِفُ يَوْمَ القِيَامَةِ علَى أَهْلِ النَّارِ، فَيُنَادِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَا فلان هَلْ تعرِفُني؟ فيقولُ لا واللهِ ما أعرِفُكَ مَنْ أَنْتَ؟ فيقولُ أنا الذِي مَرَرْتَ بِي في دَارِ الدُّنْيَا فَاسْتَسْقَيْتَنِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ فَسَقَيْتُكَ قالَ عرَفْتُ، قالَ فَاشْفَعْ لي بها عندَ ربِّكَ، قالَ فيَسْأَلُ اللهَ عز وَجَلَّ فَيَقُولُ شَفِّعْنِي فيهِ فَيُشَفَّعُ فِيهِ فَيَأْمُرُ بِهِ فَيُخْرَجُ مِنَ النَّارِ اﻫ

وقولُه عليهِ السلامُ كُرْبةً من كُرَبِ يومِ القيامة اﻫ ذلكَ لأنَّ كُرَبَ الدُّنْيَا بالنِّسْبَةِ إلى كُرَبِ الآخرةِ كَلا شىء.

وقولُه صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرَةِ اﻫ التَّيسيرُ علَى الْمُعْسِرِ في الدنيا من جهةِ المالِ يكونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمّا بِإِنْظارِه إلى الْمَيْسَرَةِ وتارةً بِالْوَضْعِ عنهُ إنْ كانَ الْمُيَسِّرُ غَرِيمًا وَإِلّا فَبِإِعْطائِه مَا يَزُولُ بهِ إِعْسارُه وكِلاهُما لهُ فَضْلٌ ففِي الصَّحيحَيْنِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كانَ تاجِرٌ يُدايِنُ الناسَ فإذا رأَى مُعْسِرًا قالَ لِفِتْيانِهِ تَجاوَزُوا عنهُ لعَلَّ اللهَ يتجاوَزُ عنَّا فَتَجاوَزَ اللهُ عنهُ ا

ومِمّا يشهَدُ لقولِه صلى الله عليه وسلم ومَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سترَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ اﻫ ما رُوِيَ عن بعضِ السَّلَفِ أنهُ قالَ أَدْرَكْتُ قومًا لَمْ يكن لهم عيوبٌ فذَكروا عُيوبَ الناسِ فذكرَ الناسُ لهم عيوبًا وأَدْرَكْتُ قومًا كانت لهم عيوبٌ فَكَفُّوا عن عُيوبِ الناسِ فَنَسِينا عُيوبَهُم اﻫ أو كمَا قال.

واعلموا إخوةَ الإيمانِ أنَّ الناسَ على ضَربَيْنِ أحدُهما مَسْتُورٌ فوَقَعَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ فلا يجوزُ هَتْكُهُ وَلا كَشْفُها لأنَّ هذا غيبةٌ مُحَرَّمَة، قالَ تعالى ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُم عَذَابٌ أَلِيم فِي ٱلدُّنيَا وَٱلأخِرَةِ وَٱللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ ١٩﴾[1] والثاني الْمُعْلِنُ لِلْفُجورِ والفُسوقِ الْمُجاهِرُ بِها فهَذَا لا غِيبةَ له كما قالَ الحسَنُ ولكن لا يُتَّخَذُ ذِكْرُهُ بِالسُّوءِ وِرْدًا أَوْ تَشفيًا وإِنَّما يُذْكَرُ لِزَجْرِهِ وَلِيَرْتَدِعَ أَمْثالُه. وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم واللهُ في عَوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيهِ اﻫ فقد كانَ عمرُ يتعاهَدُ الأرامِلَ يَسْتَقِي لَهُنَّ الماءَ بِالليلِ وقد حصلَ أنْ رءاهُ طلحةُ بالليلِ يدخُلُ بيتَ امرأةٍ فدخَلَ إليهَا طلحةُ نَهارًا فإذا هيَ عجوزٌ عَمْياءُ مُقْعَدَة، فسألَها ما يصنَعُ هذا الرَّجُلُ عِندَكِ؟ قالت هذا مِنْ كذَا وكذا يَتَعاهَدُنِي يأتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي ويُخْرِجُ عنِّي الأذَى فقالَ طلحةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا طلحةُ أَعَوراتِ عُمَرَ تتبعُ، وكانَ كثيرٌ منَ الصالحينَ يَشتَرِطُ على أصحابِه في السَّفَرِ أن يَخْدُمَهُمْ. وقولُه صلى الله عليه وسلم وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بهِ طَرِيقًا إلَى الجنّةِ اﻫ فمَنْ سلَكَ طريقَ العِلْمِ وَلَمْ يَعْوَجَّ عنهُ وصلَ إلى الجنةِ مِنْ أقْربِ الطُّرُقِ وأَسْهَلِها، فَلا طريقَ إلى معرفةِ اللهِ وإلى الوُصولِ إلى رِضْوانِه إِلا بِالعلمِ النَّافعِ الذِي بَعَثَ اللهُ بهِ رُسُلَهُ وأَنْزَلَ بهِ كُتُبَه.

وفي صحيحِ مسلمٍ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرَجَ على حلقةٍ مِنْ أصحابِه فقالَ ما أَجْلَسَكُم؟ قالُوا جلَسْنا نذكُرُ اللهَ ونحمَدُهُ على ما هدانا للإِسلامِ ومَنَّ بهِ علينَا قالَ آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلّا ذَاكَ قالُوا وَاللهِ ما أَجْلَسَنا إلا ذاكَ قالَ أمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهَمَةً لكم ولكنَّهُ أتانِي جبريلُ فأخبَرني أنَّ اللهَ عز وجلَّ يُباهِي بكُمُ المَلائِكة اﻫ

اللهمَّ سَهِّلْ لنَا سُبُلَ الهدايةِ لِسُلوكِ طَريقِ الجنَّةِ أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

     الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ الأمينِ وعلى ءالِه وصحبِه الطيبينَ الطاهرينَ. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له وأشهدُ أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى كل رسولٍ أرسله.

أما بعد عبادَ اللهِ اتَّقوا اللهَ في السِّرِّ والعَلَنِ ولا تَمُوتُنَّ إِلا وأنتم مسلمونَ. ليسَ الشأنُ عندَ اللهِ تعالَى بِحُسْنِ الْمَظْهَرِ وقُوَّةِ العَشِيرةِ والسَّنَدِ بلِ الشأنُ عندَ اللهِ بالثَّباتِ على الإيمانِ وحُسْنِ الخِتامِ فَقَدْ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في جِنازَةِ امرأَةٍ مسلمةٍ كانَتْ تَقُمُّ المسجدَ لَمْ تَكُنْ مِنْ مَشاهيرِ المسلماتِ ولكنّها كانَتْ تَكْنُسُ المسجِدَ فلَمَّا ماتَتْ خرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَشى في جنازَتِها.

واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ والسلامِ علَى نَبِيِّهِ الكَريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيهِ وَسَلِّمُواْ تَسلِيمًا ٥٦﴾[2] اللهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلَى ءالِ محمدٍ كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ وبَارِكْ عَلَى محمَّدٍ وعلَى ءالِ محمدٍ كمَا باركتَ على إبراهيمَ وعلَى ءالِ إبراهيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيدٌ.

اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا وتوَفَّنا وأنتَ راضٍ عنا يا ربَّ العالمين. اللهمَّ ارزْقنا علمًا نافعًا، اللهمَّ وانفَعْنا بِما علَّمْتَنَا وانْفَعْ بنَا يا ربّنا، اللهمّ علِّمنا ما جهِلنا وذكِّرنا ما نسينَا واجعلِ القرءانَ ربيعَ قلوبنا ونورًا لأبصارِنا وجوارِحِنا وتوَفَّنا على هَدْيِهِ وأَكْرِمْنَا بِحِفْظِهِ واحْفَظْنَا بِبَركَتِهِ وبركةِ نبيِّكَ محمدٍ عليهِ الصلاة والسلام وارزَقْنَا شفاعتَه يا أرحمَ الرّاحمين. واغفرِ اللهمّ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ إنّك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدَّعَوات.

عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.

 

[1] سورة النور/19.

[2] سورة الأحزاب/56.