المرءُ على دِينِ خَلِيلِه

        الحمدُ للهِ الذي غمَرَ صَفْوَةَ عبادِه بِلَطَائِفِ التَّخْصِيصِ طَوْلًا وامْتِنَانًا، وألَّفَ بينهم فَأَصْبَحُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، ونزعَ الغِلَّ مِنْ صُدورِهم فَظَلُّوا بِنِعْمَتِهِ أَصْدِقاءَ وأَخْدَانًا وفي الآخِرَةِ رُفَقَاءَ وخِلَّانا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ ولا مثيلَ لهُ ولا ضدَّ ولا نِدَّ لهُ. وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفِيّهُ وحبيبُهُ. اللهمَّ صلِّ على سيّدِنا محمّدٍ وعلى سائرِ إخوانِه منَ النبيينَ والمرسلينَ وعلى ءال كلٍّ وصحبِ كلٍّ وسلم.

أمّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القديرِ القائِلِ في مُحكمِ كتابِه ﴿ٱلأَخِلَّاءُ يَومَئِذ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلمُتَّقِينَ ٦٧﴾[1]

اللهُ تبارك وتعالى أخبَرنا في هذهِ الآيةِ الكريمةِ أنَّ الذينَ كانُوا في هذهِ الدُّنيا أَخِلّاءَ وَأَحْبَابًا وأصحابًا يَنْقَلِبُونَ في الآخِرَةِ أعداءً لِعظمِ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيامةِ وشِدَّةِ خوفِهم فِيهَا فيتَعَادَى ويَتَبَاغَضُ كلُّ خَليلٍ كانَ في الدُّنيا علَى غيرِ تُقًى معَ خَليلِه لأنهُ يرَى أَنَّ الضَّرَرَ قَدْ دَخَلَ علَيْهِ مِنْ قِبَلِ خَليلِه، إِلّا الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ مَوَدَّتَهُم تبقَى بينَهُم فِي الآخرةِ وينْتَفِعُ كُلُّ واحِدٍ بِصاحِبِه.

الْمُتَّقُونَ إخوةَ الإيمانِ همُ الذينَ يقومونَ بِحُقوقِ اللهِ وحُقوقِ العِبادِ، وذلكَ بأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللهُ عليهِمْ وَاجْتِنَابِ ما حَرَّمَ عليهِمْ وبِمُعامَلَةِ العبادِ مُعامَلَةً صحيحةً مُوَافِقَةً لِشَرْعِ اللهِ فهؤلاءِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَوَاصَوْنَ ويتَعَاوَنُونَ علَى مَا يُرْضِي اللهَ تعالَى، يَجْتَمِعُونَ علَى الطَّاعَةِ ويَتَفَرَّقُونَ عليهَا لا يَغُشُّ ولا يَخونُ بعضُهم بعضًا ولا يَدُلُّ بعضُهم بَعْضًا علَى بِدْعَةِ ضَلالَةٍ أو فِسْقٍ أَوْ فُجُورٍ أَوْ ظُلمٍ، جَمَعَهُمْ حُبُّ اللهِ وَأَحَبَّ كلُّ واحِدٍ منهم أخاهُ لِوَجْهِ اللهِ فَتَصَافَوُا الْحُبَّ في الله، وأَعْلَمَ كُلُّ واحدٍ منهم أخاهُ أنهُ يُحِبُّهُ في اللهِ تعالَى عمَلًا بِقَوْلِه صلى الله عليه وسلم إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ اهـ رواهُ الترمذِيّ، ثم إِنْ حَصَلَتْ مِنْ أَحدِهم مَعْصِيَةٌ يَنْهَاهُ أَخُوهُ ويَزْجُرُهُ فَفِي ذلكَ إِعانَةٌ لأَخِيهِ المؤمِنِ علَى الخَير. وروَى أَبُو يَعْلَى وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ قيلَ يا رسولَ اللهِ أَيُّ جُلَسَائِنا خَيْرٌ؟ قالَ مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَكُمْ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالآخِرَةِ عَمَلُهُ اهـ فَمِنْ مِثْلِ هؤلاءِ اخْتَرْ صَاحِبَكَ وَذَلكَ لأنَّ أكثَرَ مَا يُعينُكَ علَى الطَّاعاتِ مُخالَطَةُ الطَّائِعينَ وَأَكْثَرَ مَا يُدْخِلُكَ في الذَّنْبِ مُخالَطَةُ الْمُذْنِبِينَ كمَا قالَ عليه الصلاةُ السلامُ الْمَرْءُ علَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ اهـ[2] والنفسُ مِنْ شَأْنِهَا الْمُحاكَاةُ والتَّشَبُّهُ بِصفَاتِ مَنْ قَارَنَها فَصُحْبَةُ الغَافِلِينَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الغَفْلَةِ، فَإِيّاكَ أَنْ تُصاحِبَ مَنْ لا تَثِقُ بِهِ وبِأَمَانَتِهِ وتَعْرِفُ صَلاحَهُ وتَقْوَاهُ فإِنَّ المرءَ يكونُ في الآخِرَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. ويَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ تُؤْثَرُ صُحْبَتُهُ خَمْسُ خِصَال

أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا حَسَنَ الخُلُقِ لَا فَاسِقًا وَلَا مُبْتَدِعًا وَلَا حَرِيصًا علَى الدُّنيا.

فَأَمَّا العَقْلُ فهو رَأْسُ المالِ، ولا خَيرَ فِي صُحْبَةِ الأَحْمَق، لأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيضُرك، وأمَّا حُسْنُ الخُلُقِ فَلا بدَّ منه، إِذْ رُبَّ عَاقِلٍ يغْلِبُهُ غَضَبٌ أَوْ شَهْوَةٌ فَيُطِيعُ هَواهُ فَلا خَيْرَ في صُحْبَتِه. وَأَمّا الفَاسِقُ، فإنَّهُ لا يَخافُ اللهَ وَمَنْ لَا يَخافُ اللهَ تعالَى لا تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ وَلا يُوثَقُ بِه. وأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فيُخافُ مِنْ صُحْبَتِهِ سَرَيَانُ بِدْعَتِه.

وَمِنْ حَقِّ الصُّحْبَةِ الإِيثارُ بالمالِ، وَبَذْلُ الفَاضِلِ منهُ عندَ حَاجةِ صاحبِه إِلَيْهِ، وَيُرْوَى أنَّ فَتْحًا الْمَوْصِلِيَّ جاءَ إلى صَدِيقٍ لهُ يُقالُ لَهُ عيسَى التَّمّار، فَلَمْ يَجِدْهُ في المنزِل، فقَالَ لِلْخَادِمَةِ أَخْرِجِي لِي كِيسَ أَخِي، فَأَخْرَجَتْهُ فَأَخَذَ مِنْهُ دِرْهَمَيْنِ، وَجَاءَ عيسَى إلَى مَنْزِلِه فَأَخْبَرَتْهُ الجَاريةُ بذلكَ فقالَ مِنْ فَرَحِهِ إِنْ كُنْتِ صَادِقَةً فَأَنْتِ حُرَّة، فنظَرَ فإذَا هِيَ قَدْ صَدَقَتْ فَعَتَقَتْ.

وَمِنْ حَقِّ الصحبةِ كِتْمَانُ السِّرِّ، وسترُ عُيوبِ صاحِبِهِ في حُضُورِه وغَيْبَتِه، وَمِنْ ذلكَ أنْ يَذُبَّ عنهُ في غَيْبَتِهِ إذَا تُكُلِّمَ فيهِ كمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِه، وأَنْ يَنْصَحَهُ بِلُطْفٍ وتَعْرِيضٍ إِذَا احتاجَ إليهِ ويَعْفُوَ عن زَلَّتِه وهَفْوَتِه قالَ الفُضَيلُ الفُتُوَّةُ الصَّفْحُ عَنْ زَلّاتِ الإِخْوَانِ اهـ وَلَا يُكْثِرَ العَتَبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْفِرُ مِنَ القَبُول، ومنها أن يُحْسِنَ الوَفَاءَ مَعَ أَهْلِهِ وأَقَارِبِهِ بعدَ موْتِه وَأَنْ يُظْهِرَ لَهُ الفَرَحَ بِجَمِيعِ مَا يَسُرُّه، ويُظْهِرَ لهُ الحُزْنَ بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْمَكَارِه، وأَنْ يُسِرَّ لَهُ مِثْلَ مَا يُظهِرُه فَيكونَ صَادِقًا في وُدِّهِ سِرَّا وعَلانِيَةً وأَنْ يَبْدَأَهُ بالسلامِ عندَ إِقْبَالِهِ وأَنْ يُوَسِّعَ لَهُ في المجلِسِ وَيَخْرُجَ لَهُ مِنْ مَكَانِه وَيُشَيِّعَهُ عندَ قِيامِه ويُعامِلَهُ بِما يُحِبُّ أن يُعامَلَ بِه وَيَتَجَنَّبَ السؤالَ عمَّا يَكْرَهُ ظُهُورَهُ مِنْ أَحْوَالِه، وَلا يَسأله إذَا لَقِيَهُ: إلَى أَيْنَ؟ فَرُبَّمَا لا يُرِيدُ إِعْلامَهُ بذَلك، وأَنْ يَكْتُمَ سِرَّهُ ولَوْ بَعْدَ القَطِيعَةِ، وَلا يقدَحَ في أَحبابِه وأهلِه، ولا يُبْلِغَه قَدْحَ غيرِه فيهِ.

وينبغِي أَخِي المسلم أن تترُكَ إِساءَةَ الظَّنِّ بأَخِيكَ، وأَنْ تَحْمِلَ فِعْلَهُ علَى الحَسَنِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وقَدْ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مَا رواهُ البُخاريُّ في الصحيحِ إيَّاكُمْ والظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ اهـ وقَدْ قالَ ابنُ المبارَكِ الْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ الْمَعَاذِيرَ، وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ الزَّلَّاتِ.

وَمِنها الوَفَاءُ وَالإِخْلاصُ، وَمَعْنَى الوَفَاءِ الثَّبَاتُ علَى الحُبِّ إلَى الْمَوْتِ، وَبَعدَ مَوْتِ الأَخِ مَعَ أَوْلادِهِ وَأَصْدِقَائِه، وَقَدْ أَكْرَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عجوزًا وَقَاَل إِنَّها كانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ العَهْدِ مِنَ الإِيمانِ اهـ[3]

فَاحْرِصْ أَخِي المسلم علَى مُخالطَةِ التَّقِيِّ فإنَّ فيهِ حِفْظَ دِينِكَ وهُوَ أَوْلَى لَكَ مِنْ مُخَالَطَةِ غَيْرِ التَّقِيِّ.

اللهمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الإِخْوَةِ الْمُتَحَابِّينَ فيكَ وَمِنَ الذِينَ يَجْتَمِعُونَ علَى طاعَتِكَ وثَبِّتْنَا علَى الإِيمانِ وَسَدِّدْ خُطَانَا نَحْوَ الخَيْرِ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمين.

هذا وأستغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ المؤمِنينَ خديجةَ وَحَفْصَةَ وعائِشَةَ الوَلِيَّةِ البَرَّةِ الطَّاهِرَةِ النَّقِيَّةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَرَّأَةِ وَسَائِرِ أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرِّجْسِ وءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلفاءِ الرَّاشدِينَ أبِي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعُمَرَ الفَارُوقِ الذي يَجْرِي الحَقُّ علَى لِسانِه وَقَلْبِه وَمَنْ قالَ فيهِ الرسولُ مَا لَقِيَكَ الشيطانُ سَالِكًا فَجًّا إِلّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك اهـ وعُثْمَانَ ذي النُّورَيْنِ وَعَلِىٍّ الكَرّارِ وعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أبِي حنيفَةَ ومَالِكٍ والشافِعِيِّ وأحمَدَ وعنِ الأولياءِ والصَّالحينَ أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فَاتَّقُوهُ.

واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ والسلامِ علَى نَبِيِّهِ الكَريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيهِ وَسَلِّمُواْ تَسلِيمًا ٥٦﴾[4] اللهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلَى ءالِ سَيِّدِنا محمدٍ كما صلَّيتَ على سيدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيِّدِنا إبراهيمَ وبَارِكْ عَلَى سيدِنا محمَّدٍ وعلَى ءالِ سيدِنا محمدٍ كمَا باركتَ على سيدِنا إبراهيمَ وعلَى ءالِ سيدِنا إبراهيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيدٌ. اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ رَبَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. اذكُروا اللهَ العظيمَ يُثِبْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أَمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة الزخرف/67.

[2] رواه أحمد في مسنده.

[3] رواه الحاكم في المستدرك.

[4] سورة الأحزاب/56.