إِصْلَاحُ الْقُلُوْبِ

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونتوبُ إليه، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ ولا شبيهَ ولا مِثْلَ ولا نِدَّ لَهُ، ولا جُثَّةَ ولا أَعضاءَ له، أَحدٌ صمدٌ لم يلدْ وَلَمْ يُولدْ ولم يكن له كفُوًا أحد، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا عبدُه ورسولُه. اللهم صلِّ على سيدِنا محمدٍ وعلَى ءالِه وصحابَتِه الطيبينَ الطَّاهرين. أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ فَأُوْصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُم بِتَقْوَى اللهِ العَظِيْمِ القَائِلَ في سُورةِ الحَجِّ ﴿أَفَلَم يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوب يَعقِلُونَ بِهَا أَو ءَاذَان يَسمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعمَى ٱلأَبصَٰرُ وَلَٰكِن تَعمَى ٱلقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ ٤٦﴾. وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّمَ قال أَلَا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ القَلْبُ اهـ رواهُ البُخاريُّ ومُسْلِم.

اِعْلَمُوا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ أَنَّ القَلْبَ أَمِيْرُ الجَوَارِحِ وأَشْرَفُ أَعْضَاءِ الْمَرْءِ البَاطِنَةِ وأَنَّ الجَوَارِحَ لا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ أَمْرِه، وذلكَ أنَّ الإنسانَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ بِأَيِّ عَمَلٍ مَا مِنْ أَعْمَالِ الخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، يَحْصُلُ في قَلْبِهِ عَزْمٌ عَلى ذَلك العَمَلِ ثُمَّ يُعْطِي القَلْبُ الإِشَارَةَ لِلْجَوَارِحِ فَتَتَحَرَّكُ لِلْقِيَامِ بِالعَمَلِ فَيَكُونُ هذا الفِعْلُ بِوَاسِطَةِ الأَعْضَاءِ تَعْبِيْرًا عَمَّا انْعَقَدَ في القَلْبِ. وَحَيْثُ عُلِمَ هَذا فَحَرِيٌ بِالنَّاسِ العَمَلُ عَلى تَصْفِيَةِ القُلُوبِ وحِفْظِهَا مِنَ الأَدْرَانِ وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الأَمْرَاضِ القَتَّالَةِ حتى تَسْتَقِيْمَ فَتَتَحَرَّكَ نَحْوَ الخَيْرِ وَتُحْجِمَ عَنِ الشَّرِّ.

وَمِنْ أَمْرَاضِ القُلُوبِ الشَّكُّ في اللهِ أَيْ في وُجُودِهِ أَوْ وَحْدَانِيَّتِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ أَوْ حِكْمَتِهِ أَوْ عَدْلِهِ أَوْ عِلْمِهِ وَكُلُّ هَذا نَقْضٌ لِلْإِيمانِ وَخُرُوْجٌ مِنْه، وَمِنْهَا الرِّيَاءُ وَهُوَ العَمَلُ بِالطَّاعَةِ لِيَمْدَحَهُ النَّاسُ لا مُخْلِصًا لله، والحِقْدُ والحَسَدُ وَسُوْءُ الظَّنِّ بِالنَّاسِ وَغَيْرُ ذَلك مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَشَرْحُه، فَإِنْ لَمْ يَحْفَظِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مِنْ ذُنُوبِ القَلْبِ زَادَتْ عَلَيْهِ الخَطَايَا وَرُبَّمَا اسْوَدَّ قَلْبُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَتَّى لَا تَصِلَ إِلَيْهِ ءَاثَارُ الْمَوَاعِظِ وَلَا تَدْخُلَ مِنْ أَبْوَابِهِ الإِرْشَادَاتُ.

فمَا أَحْوَجَنَا لِلْمُثَابَرَةِ عَلَى إصلاحِ القُلوبِ لِتَضْمَحِلَّ بِذَلِكَ الأَدْوَاءُ التي عَشَّشَتْ في قُلُوبِ كَثِيْرِيْنَ هُمْ مَعَ ذَلِكَ يَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمُ الصَّلَاحَ وَالإِصْلَاحَ فَتَرَى أَحَدَهُم يكسر قَلْبَ أَخِيْهِ الْمُؤْمنِ بما يُوَاجِهُهُ بِهِ مِنْ شَتْمٍ وَتَأْنِيْبٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَا يُظْهِرُهُ لَهُ مِنْ عَدَاوَةٍ ثُم يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ فَيَقُوْلُ أَنَا لَسْتُ مُدَاهِنًا وَلَا مُخَادِعًا إِنَّما أَنَا صَادِقٌ وصَرِيْحٌ وَأُعَبِّرُ عَمَّا في قَلْبِي مَهْمَا كَانَتِ النَّتَائِج، وَقَدْ جَهِلَ هَذا الْمَخْدُوعُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِظْهَارِ البَشَاشَةِ وَالابْتِسَامَةِ في وَجْهِ أَخِيْكَ الْمُؤْمِنِ وَأَنْتَ تَنْصَحُهُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَحْزَنَ عَلَيْهِ إِذَا رَأَيْتَهُ عَلَى شَرٍّ وَتَسْعَى لِإِنْقَاذِهِ مِنْهُ لَا أَنْ تَشْمَتَ بِه، فَفَرْقٌ كَبِيْرٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَسُوءِ الأَدَبِ وَبَيْنَ الصَّرَاحَةِ وَبَيْنَ الوَقَاحَة، وَقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما قَالَ اللهُ تَعَالى في سُورةِ ءَالِ عِمْرَان ﴿فَبِمَا رَحمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّواْ مِن حَولِكَ فَٱعفُ عَنهُم وَٱستَغفِر لَهُم﴾ وَلَعَمْرِي لَوِ اجْتَمَعَ هَذَا الذِي يَدَّعِي الصَّرَاحَةَ وَالصِّدْقَ في مَجْلِسٍ مَعَ ذِيْ سُلْطَانٍ لم يُكَلِّمْهُ بِغِلْظَةٍ بَلْ حَاوَلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمُنْتَهَى الأَدَب. فَالْعَاقِلُ مَنِ اجْتَهَدَ في تَهْذِيْبِ نَفْسِهِ وَتَقْوِيمِ قَلْبِهِ. هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الله.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه. اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ، اللهم مَتِّعْنا بِأَسْمَاعِنا وأَبْصارِنا وَقُوَّتِنا واجْعَلْهُ الوَارِثَ منّا مَا أَحْيَيْتَنا، اللهمَّ لا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنا في دينِنا، ربَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون. وَأَقِمِ الصلاة.