الحمدُ للهِ مُكَوِّنِ الأكوانِ، الموجودِ أزلًا وأبدًا بلا مكان، الذي أَيَّدَ سيدَنا محمدًا بِالْمُعْجِزَاتِ الباهرةِ، والدِّلالاتِ الظاهرةِ. نحمَدُهُ سبحانَهُ وتعالى أن جعلَ هذا النبيَّ الكَريمَ أيسرَ الأنبياءِ شريعةً وأكثرَهُم مُعْجِزَاتٍ وأعظَمَهُمْ دَلَائِلَ وأوضَحَهُمْ ءاياتٍ وأَجْمَلَهُمْ خَلْقًا وخُلُقًا، وأفضَلَهُمْ رِفْعَةً لديهِ ومَنْزِلَةً، وأَعْلَاهُمْ في الدنيا والآخِرَةِ، فكانَ أَفْضَلَ الأنبياءِ والمرسلينَ ورسولًا إلى كافَّةِ العالمين. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ، الفَرْدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدُ ولمْ يَكُنْ لهُ كفوًا أحد. وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسَلِّمْ على هذا النبيِّ الكريمِ وعلى ءالِهِ الطاهرينَ وصحابَتِهِ الطَّيِّبِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدّين.
أمَّا بعدُ فإني أُوصِيكم بِتَقْوَى اللهِ العَظيمِ والسَّيْرِ عَلَى خُطَا رسولِهِ الكريم. يقولُ اللهُ تبارَكَ وتَعالَى فِي سورةِ الإسراءِ {سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١}[1]
إِخْوَةَ الإيمانِ تَمُرُّ علَيْنَا فِي هذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ والمعراجِ، فإنها مُناسَبَةٌ سَامِيَةٌ لِذِكْرَى رَاقِيَةٍ يُحْتَفَلُ بِها لِعَظِيمِ مَدْلُولِها وَجَلالِ قَدْرِهَا، كَيفَ لا وَهِىَ مُعجزَةٌ كُبْرَى خُصَّ بِهَا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ النبيُّ الأُمِّيُّ العَربِيُّ الأَمِين وخَاتَمُ النَّبِيِّينَ صلواتُ رَبِّي وَسَلَامُه عليه فَكانَ إِسراؤُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ المكرَّمةِ إلى المسجدِ الأَقْصَى الشَّريفِ وَمِعْرَاجُهُ إلَى السَّمواتِ العُلا وَوَصْفُهُ الأَقْصَى لأهلِ مَكَّةَ وصفًا دقيقًا دَلِيلًا قَاطِعًا وَبُرْهَانًا سَاطِعًا علَى صِدْقِ دَعْوَتِهِ وَحَقِّيَّةِ نُبُوَّتِهِ.
إخوَةَ الإيمانِ إنَّ معجزةَ الإِسراءِ ثابتةٌ بِنَصِّ القُرْءَانِ والأحَادِيثِ الصَّحيحَةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِذَلكَ قالَ العُلماءُ إِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الإِسراءَ فَقَدْ كَذَّبَ القُرْءَانَ والذي يُكَذِّبُ القُرْءَانَ لا يَكُونُ مِنَ المسلِمين. وَكانَ إسراءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلًا بِالرُّوحِ والجَسدِ يَقَظَةً، وليسَ ذلكَ بِعَزِيزٍ على الله.
بدَأَتْ رحلَةُ الإِسراءِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ شقيقةِ عليِّ بنِ أبي طَالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ حيثُ كانَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم نائمًا معَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وابنِ عَمِّهِ جعفرٍ رضيَ اللهُ عنهُما، هناكَ شُقَّ صَدْرُهُ شَقًّا حَقِيقِيًّا، مِنْ دُونِ أَنْ تُصِيبَهُ ءَالامٌ كالتِي تَحْصُلُ لِمَنْ تُجْرَى لَهُ العَمَلِيَّاتُ الجِرَاحِيَّةُ عَادَةً، غُسِلَ قَلْبُهُ وَمُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمانًا حَتَّى يَتَهَيَّأَ لِمُشَاهَدَةِ عَجَائِبِ خَلْقِ اللهِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، وكانَ قَدْ شُقَّ صَدْرُهُ قبلَ ذلكَ حينَ كانَ ابنَ سَنَتَيْن.
مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ مَكَّةَ المكرمَةِ بَدَأَ الإسراءُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي المسجِدِ الحَرامِ أَرْكَبَهُ سيدُنا جبريلُ البُرَاقَ وهو دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّ الجنَّةِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ ءَاخِرِ مَدَى بَصَرِهِ، فَرَكِبَ النبيُّ خَلْفَ جِبريلَ عليه السلامُ، وَمَرَّ بالمدينةِ الْمُنَوَّرَةِ قبلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهَا، فَنَزَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثم مَرَّ بِمَدْيَنَ مَدينَةِ النبيِّ شُعَيْبٍ عليهِ السلامُ، فَنَزَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْن، ثم بِطُورِ سَيْنَاءَ فَنَزلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثم بِبَيْتِ لَحْمٍ حيثُ وُلِدَ سيدُنا عيسى عليه السلامُ فَنَزَلَ وصلَّى ركْعَتَيْنِ، حتى وصلَ إلى بيتِ الْمَقْدِسِ الذِي هو أَوَّلُ بَيْتٍ بُنِيَ لِعِبَادَةِ اللهِ تعالى بَعْدَ بِنَاءِ الكعبةِ الْمُشَرَّفَةِ في زَمَنِ ءادَمَ عليهِ السلامُ، فربَطَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم البُراقَ بِالحَلْقَةِ التِي يَرْبِطُ بِها الأنبياءُ، وَدَخَلَ المسجدَ وَقَدْ جَمَعَ اللهُ لَهُ جَمِيعَ الأَنْبِياءِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا وَقَدَّمَهُ جبريلُ عليهِ السلامُ إِمَامًا لَهُمْ جَمِيعًا لِبَيَانِ مَرْتَبَتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وفَضْلِهِ عليهِم، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ العَهْدَ قبلَ ذَلِكَ علَى كُلِّ نَبِيٍّ أنهُ إِنْ بُعِثَ مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَأَمَرَ كُلُّ نَبِيٍّ قَوْمَهُ بِمُقْتَضَى ذَلكَ العَهْدِ، فكانَ كُلُّ نبيٍّ يَعْرِفُ مُحمدًا صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ.
Continue reading الإسراءُ المعجزةُ العظيمة →