إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَسْتَغْفِرُهُ ونتوبُ إلَيه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ومن يضلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا شَبيهَ ولا مِثْلَ وَلا نِدَّ لَهُ، ولا حَدَّ ولا جُثَّةَ وَلا أعضاءَ لَه، وأشهَدُ أن سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أَعيُنِنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ من بعَثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هادِيًا ومبشرًا ونذيرًا اللهمّ صلِّ وسلِّمْ على سيدِنا محمّدٍ الدّاعِي إلَى الخيرِ والرَّشادِ، الذي سَنَّ للأُمّةِ طَريقَ الفَلاح، وبيَّنَ لَها سُبُلَ النّجاح، وعلَى ءالِه وصَفْوَةِ الأَصحَاب.
أما بعدُ عبادَ اللهِ فإِنّي أُوصيكُم ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ القائِلِ في مَعْرِضِ الامتِنَانِ علَى النّاس ﴿أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ ٨ وَلِسَانا وَشَفَتَيۡنِ ٩﴾[1] فَذَكَرَ نِعَمَهُ علَى الإِنسانِ بأن جعلَ له عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا المرئِيّاتِ وجَعَلَ لَهُ لِسانًا يُعَبِّرُ بهِ عمّا في ضميرِه وجعَلَ لَهُ شَفَتَيْنِ يَسْتُرُ بِهِمَا ثَغْرَهُ ويَسْتَعِينُ بِهما علَى النُّطقِ والأَكْلِ والشُّرْبِ والنَّفْخِ ﴿وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ ١٠﴾[2] أَيْ طَرِيقَيِ الخيرِ والشَرِّ الْمُؤَدِّيَيْنِ إلَى الجنَّةِ وَالنَّار. قيلَ إنَّ هذهِ الآياتِ نَزَلَتْ فِي الوَلِيدِ بنِ المغيرَةِ أحدِ صنادِيدِ قُرَيْشٍ الذِي لَمْ يَرْعَ حقَّ اللهِ تعالَى فيهَا فغَمِطَ نِعَمَهُ فَلَمْ يَشْكُرْهَا وكفَرَ بِالْمُنْعِمِ.
إخوةَ الإيمانِ، إنَّ اللسانَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مُوجِبَةٌ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ .. وشكرُ الْمُنْعِمِ علَى هذهِ النِّعمةِ يكونُ بتركِ اسْتِعْمَالِهَا فيمَا حَرَّمَ اللهُ .. ومِنَ الناسِ مَنْ لا يَشْكُرُ اللهَ على هذهِ النِّعْمَةِ فيُطلِقُونَ ألسِنَتَهُمْ بِما لا يجوزُ لهمُ النُّطقُ بهِ وكثيرٌ مَا هُم .. ومِنْ ذلكَ إخوَةَ الإيمانِ الكَذِبُ وشَتْمُ المسلِمِ بغيرِ حَقٍّ والغيبةُ والنَّمِيمَةُ وإِشْعَالُ الفِتْنَةِ بينَ المسلِمينَ وَأَذِيَّتُهُمْ بِالكَلامِ وغيرُ ذلكَ مِنْ مَعاصِي اللسانِ .. ومِنهم إخوةَ الإيمانِ مَنْ يَصِلُ إلَى أَكْبَرِ الظُّلمِ أَلا وَهُوَ الكُفْرُ والعِياذُ بِاللهِ .. فتَرَى الواحدَ منهم بدَلَ أَنْ يُعَظِّمَ نِعْمَةَ اللهِ عليهِ يَسْتَعْمِلُها في مَسَبَّةِ اللهِ .. في شَتْمِ اللهِ والعياذُ بِالله .. منهم مَنْ إذَا غَضِبَ سَبَّ اللهَ والعياذُ بِاللهِ .. ومنهم مَنْ يُسُبُّ اللهَ في حالِ الغَضَبِ وفِي حالِ الرِّضا ثم يزعُمُ أنّهُ مُسْلم .. هيهات .. مَنْ يسب اللهَ لا يكونُ مُسْلِمًا فإِنَّ المسلمَ هُوَ مَنْ ءامَنَ وصدَّقَ واعْتَقَدَ أَنْ لا أحَدَ يَسْتَحِقُّ العبادةَ أي نِهايةَ التَّذَلُّلِ والخشوعِ والخضُوعِ إِلا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ واجْتَنَبَ مَا يَنْقُضُ الإِسلام .. المسلمُ مَنْ عَقَدَ قلبَهُ علَى تَعظيمِ اللهِ الواحِدِ الأحَدِ التعظِيمَ الوَاجِبَ علَى الدّوامِ وأمَّا مَنْ سَبَّ اللهَ فهذَا لا يَكونُ مُعَظِّمًا لله .. مَنْ سبَّ اللهَ خرَجَ مِنَ الإسلامِ وصارَ مِنَ الكافِرينَ وَلا يُقْبَلُ قولُه بعدَ ذلكَ “أنَا كنتُ غَضْبَانَ وَلَمْ أُرِدْ أَنْ أَكْفُرَ” فَقَدْ بَيَّنَ علماءُ الإسلامِ أَنَّ كَوْنَ الشخصِ غاضِبًا لا يُنْجِيهِ مِنَ الوُقوعِ فِي الكُفرِ إِنْ تَعمَّدَ النُّطْقَ بِالكُفر، أي إِنْ لَمْ يَكُنْ حصولُ ذلكَ منهُ عَنْ سَبْقِ لِسان، فقَدْ نقَلَ الحافظُ النوَوِيُّ عن علماءِ الحنفِيَّةِ وأقرَّهُمْ علَى ذلكَ أنّهُ لَوْ غَضِبَ إنسانٌ علَى وَلَدِهِ أو غُلامِه فضَرَبَهُ ضَرْبًا شَديدًا فقالَ لهُ ءاخَرُ أَلَسْتَ مُسْلِمًا فقالَ لا مُتَعَمِّدًا كفرَ، ومعنَى كلامِ هؤلاءِ العُلماءِ أنَّ المسلمَ إذَا غَضِبَ غضبًا شديدًا علَى ولَدِه فَضرَبَه ضَرْبًا شديدًا بسببِ شدَّةِ غضبِهِ فقالَ لَهُ شَخْصٌ ءاخَرُ كيفَ تضرِبُهُ بهذِهِ القَسْوَةِ ألَسْتَ مُسْلِمًا لأنَّ مِنْ شأنِ المسلمِ أَنْ يكونَ رَحيمًا وَلا يَتَمَادَى في الضَّرْبِ الشَّديدِ للوَلدِ وإِنْ كانَ الشخصُ غاضِبًا فكانَ جَوابُ الضَّارِبِ (لا) أَيْ لَسْتُ مُسلِمًا مِنْ غيرِ سَبْقِ لِسانٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْقِدَ وَعْيَهُ فَيُجَنَّ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ ولا يكونُ غضبُه عُذْرًا لَهُ.