Category Archives: خطب الجمعة

الإيمانُ بِالقَدَر

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ ِمنْ شُرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مَثِيلَ ولا شبيهَ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَهُ. وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنا مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشّرًا ونذيرًا بَلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جَزى نبيًّا مِنْ أنبيائهِ. اللهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مَحمَّدٍ وعلَى ءالِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.

أما بعدُ فيَا عِبادَ اللهِ أُوصِيكُم ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ. روى الحافظُ أبو نُعيمٍ في تاريخِ أصبَهانَ عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قالَ جاءَ مُشْرِكُو قُريشٍ إلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخاصِمُونَهُ فِي القَدَرِ فَنَزَلَتْ هذهِ الآيَاتُ ﴿إِنَّ ٱلمُجرِمِينَ فِي ضَلَٰل وَسُعُر ٤٧ يَومَ يُسحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِم ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ٤٨ إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَٰهُ بِقَدَر ٤٩﴾ [1].

إِخوَةَ الإِيمان، إنَّ مِنْ أُصولِ عقائدِ المسلمينَ الْإِيمانَ بِقَدَرِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أنَّ رسولَ اللهِ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الإيمانِ قالَ الإيمانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وملائكتِه وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اﻫ وَمعنَى قولِه صلى الله عليه وسلم وتؤمنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَنَّ تُؤمنَ أنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الوُجودِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللهِ الأزَلِيِّ فالطاعَةُ التِي تحصُلُ مِنَ المخلوقِينَ والمعصِيَةُ التي تَحْصُلُ منهُمْ كُلٌّ بِخَلْقِ اللهِ وإيجادِهِ إِيَّاهَا وبعلمِهِ ومشيئَتِهِ وليسَ مَعْنَى ذلكَ أَنَّ اللهَ يَرْضَى بِالشَّرِّ ولا أنَّهُ يَأْمُرُ بِالمعصيةِ إنَّمَا الخيرُ مِنْ أَعْمالِ العِبادِ بِتَقْدِيرِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ والشَّرُّ مِنْ أَعْمالِ العِبادِ بِتَقْديرِ اللهِ لا بِمَحبَّتِهِ وَرِضَاهُ، قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ رضىَ اللهُ عنهُ الذي هو مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ إِنَّ الوَاجِبَاتِ كلَّها التي يَفْعَلُها العَبْدُ هِيَ بِأَمْرِ اللهِ تعالَى ومَحَبَّتِهِ وبِرِضَائِهِ وعِلْمِهِ ومَشيئَتِهِ وقَضَائِهِ وتَقديرِه والمعاصِيَ كُلَّها بِعِلْمِهِ وقضائِهِ وتَقْدِيرِهِ ومشيئتِهِ لا بِمَحَبَّتِهِ وَلَا بِرِضَائِهِ وَلَا بِأَمْرِه اﻫ فَفَرْقٌ أيها الأحبَّةُ بينَ المشيئَةِ وبينَ الأَمْرِ فَاللهُ لَمْ يَأْمُرْ بالكُفْرِ والمعاصِى لكنْ كُفْرُ الكافرينَ ومعصيةُ العُصاةِ لا يُمكنُ أن يحصُلَ شىءٌ منها لَوْ لَمْ يَشَإِ اللهُ حُصُولَهُ وإِلّا لَوْ كانَ يَحْصُلُ ما لَمْ يَشَإِ اللهُ حُصولَهُ لكانَ عَاجِزًا والعَجْزُ علَى اللهِ مُحَالٌ واللهُ تعالى غالبٌ على أَمْرِه.

Continue reading الإيمانُ بِالقَدَر

الوضوءُ

إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ باللهِ من شُرورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سُبْحَانَهُ لَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ لَيْسَ حَجْمًا وَلَا شَكْلًا جَلَّ رَبِّي عَنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ كَالْمَخْلوقَاتِ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ نَبِيُّ الهُدَى وَمِصْبَاحُ الدُّجَى اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِه وَأَصْحَابِه الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ.

أما بعدُ إخوةَ الإيمانِ أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ القَائِلِ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلمُتَطَهِّرِينَ٢٢٢﴾[1] الآية.

إخوةَ الإِيمانِ إِنَّ الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ رَسُولُ الهُدَى وَفِعْلُهُ فِعْلُ الاسْتِقَامَةِ، وفي النَّظَرِ في سِيرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وأَفْعَالِهِ وعِبادَتِهِ الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ القَيِّمَةُ وَالْعِبَرُ النَّافِعَةُ لِدِينِ الْمُسْلِمِ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ ﴿لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَة لِّمَن كَانَ يَرجُواْ ٱللَّهَ وَٱليَومَ ٱلأخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرا ٢١﴾[2].

Continue reading الوضوءُ

معجزةُ الإسراءِ والمعراجِ

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ ونستهديه ونشكرُهُ ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنَـا، من يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِـلَّ لَهُ ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لـهُ وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا بلَّغ الرسالة وأَدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمّةَ فجزاهُ اللهُ عَنَّا خيرَ ما جَزَى نبيا من أنبيائه، وصلى الله وسلمَ على سيدِنا محمدٍ الأمينِ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ.

أما بعد فيا عباد الله أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العليّ العظيم. يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم ﴿سُبحَٰنَ ٱلَّذِي أَسرَىٰ بِعَبدِهِۦ لَيلا مِّنَ ٱلمَسجِدِ ٱلحَرَامِ إِلَى ٱلمَسجِدِ ٱلأَقصَا ٱلَّذِي بَٰرَكنَا حَولَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِن ءَايَٰتِنَا إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ١﴾[1].

أيها الأحبةُ تَمُرُّ علينَا في هذَا الشهرِ الكريمِ رَجَبٍ ذِكْرَى الإسراءِ والمِعْرَاجِ، وَهِىَ مناسبةٌ سَامِيَةٌ لِذِكْرَى رَاقِيَةٍ يُحْتَفَلُ بِهَا لِعَظِيمِ مَدْلُولِها وَجَلَالِ قَدْرِهَا، كيفَ لَا وَهِيَ مُعْجِزَةٌ كُبْرَى خُصَّ بِهَا مُحمدُ بنُ عبدِ اللهِ النبيُّ الأمِّيُّ العَرَبِيُّ الأَمِينُ، خَاتَمُ الأنبياءِ وَأَوْفَى الأَوْفِيَاءِ فَقَدْ كانَ إسراؤُهُ مِنْ مَكَّةَ المكرَّمَةِ لِلْأَقْصَى الشَّرِيفِ، ومعراجُهُ إلى السماواتِ العُلَا ورُجُوعُهُ فى جُزْءِ لَيْلَةٍ يُخبرُ أهلَ الأرضِ عَمَّا رأَى مِنَ العَجَائِبِ وَيَصِفُ لَهُمُ الأَقْصَى نَافِذَةً نَافِذَةً، دَلِيلًا قَاطِعًا وَبُرْهَانًا سَاطِعًا علَى صِدْقِ دَعْوَتِهِ وَحَقِّيَّةِ نُبُوَّتِهِ.

إِخْوَةَ الإِيمان، روَى النَّسَائِىُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا فَرَكِبْتُ وَمَعِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسِرْتُ فَقَالَ انْزِلْ فَصَلّ فَفَعَلْتُ فَقَالَ أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ ثُمَّ قَالَ انْزِلْ فَصَلّ فَصَلَّيْتُ فَقَالَ أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ قَالَ انْزِلْ فَصَلّ فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ فَقَالَ أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَجُمِعَ لِي الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَام فَقَدَّمَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتُهُمْ ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا فِيهَا ءادَمُ عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِذَا فِيهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَإِذَا فِيهَا إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ[2] السَّادِسَةِ فَإِذَا فِيهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ صُعِدَ بِي فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ فَأَتَيْنَا سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى اهـ

أيها الأحبةُ لَقَدْ أُسْرِيَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسْرَاءِ مِنْ مَكَّةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجُمِعَ لَهُ الأنبياءُ هُناكَ وَصَلَّى بِهِمْ ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إلَى السماواتِ حَتَّى بَلَغَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَهُنَاكَ رَأَى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم سَيِّدَنا جِبْريلَ عليهِ السلامُ، فَدَنَا جبريلُ مِنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِشِدَّةِ شَوْقِهِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى كانَ مَا بَيْنَهُمَا قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أَوْ أَقَلَّ، كمَا قال تعالى في النبيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلهَوَىٓ ٣ إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحَىٰ ٤ عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلقُوَىٰ ٥ ذُو مِرَّة فَٱستَوَىٰ ٦ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعلَىٰ ٧ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ٨ فَكَانَ قَابَ قَوسَينِ أَو أَدنَىٰ ٩﴾[3] عَلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدُ القُوى ذُو المِرَّةِ جِبْرِيلُ، وهُوَ الذِي دَنَا مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ حِينَ رَءَاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندَ سدرةِ الْمُنْتَهَى علَى صُورَتِه الأَصْلِيَّةِ كمَا قالَ تعالَى ﴿وَلَقَد رَءَاهُ نَزلَةً أُخرَىٰ ١٣ عِندَ سِدرَةِ ٱلمُنتَهَىٰ ١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلمَأوَىٰٓ ١٥﴾[4]. رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ إِمَامَا أَهْلِ الحَدِيثِ عَنِ السيدَةِ الصِّدِّيقَةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ زوجةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عائشةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّها عِنْدَما ذُكِرَ لها قولُ اللهِ تعالى ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ٨ ﴾ قَالَتْ إِنَّما ذَاكَ جِبْرِيلُ اهـ أي وَلَيْسَ المقصُودُ بهذهِ الآيةِ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَنَا مِنْ رَبِّهِ تعالى بِالْمَسَافَةِ والجِهَةِ حتى صارَ أَقْرَبَ إليهِ مِنْ ذِرَاعَيْنِ لأنَّ اللهَ تعالَى لَيْسَ جِسْمًا ذَا كَمِّيَّةٍ، وليسَ لهُ مَكَانٌ ولا جِهَةٌ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ القُرْبُ الْمَسَافِيُّ والبُعْدُ المسَافِيُّ وهذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ. فالْزَمْ أَخِي عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ بِإِذْنِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وقالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ كانَ ذَهَابُه صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إلى المسجِدِ الأَقْصَى وَعُرُوجُهُ إلى أَنْ عَادَ إلى مَكَّةَ في نَحْوِ ثُلُثِ لَيْلَةٍ، فَأَخْبَرَ الكُفَّارَ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِ فَتَجَهَّزَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلى أبي بَكْرٍ فقالوا لَهُ هَلْ لَكَ في صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثم رَجَعَ إلى مَكَّةَ في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فقالَ أبو بَكْرٍ أوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا نَعَمْ قالَ فأَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ قالُوا فَتُصَدِّقُهُ بأَنْ يَأْتِيَ الشَّامَ في ليلَةٍ وَاحِدَةٍ ثم يَرجِعَ إلَى مَكَّةَ قبلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قالَ نَعَمْ إِنِّي أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ اهـ فَبِهَا سُمِّيَ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَجَمَعَ أبُو جَهْلٍ قَوْمَهُ فَحَدَّثَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِمَا رَأَى فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَيْفَ بِنَاؤُهُ وكَيْفَ هَيْئَتُهُ وكيفَ قُرْبُهُ مِنَ الْجَبَلِ فَإِنْ يَكُنْ محمّدٌ صَادِقًا فَسَأُخْبِرُكُمْ وَإِنْ يَكُنْ كَاذِبًا فَسَأُخْبِرُكُمْ فَجَاءَهُ ذلكَ الْمُشْرِكُ فَقَالَ يَا محمدُ أنَا أعْلَمُ الناسِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَخْبِرْنِي كيفَ بِنَاؤُهُ وكيفَ هَيْئَتُهُ وكيفَ قُرْبُهُ مِنَ الجَبَلِ فَرُفِعَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ مَقْعَدِهِ فَنَظَرَ إليهِ كَنَظَرِ أَحَدِنَا إلَى بَيْتِهِ بِنَاؤُهُ كذَا وكذَا وَهَيْئَتُهُ كذَا وكذَا وقُرْبُهُ مِنَ الجبلِ كَذَا وَكَذَا فقَالَ الآخَرُ صَدَقْتَ وَفِى رِوَايَةٍ قالَ أمَّا النَّعْتُ أَيِ الوَصْفُ فَقَدْ وَاللهِ أَصَابَ. وفِي هذَا قالَ القَائِلُ

 

وَالْمَسْجِدُ الأَقْصَى عَلَيْهِ مِنَ التُّقى

حُلَلٌ ومِنْ نُورِ الهُدَى لَأْلَاءُ

وَالأَنْبِيَاءُ بِبَابِهِ قَدْ شَاقَهُمْ

نَحْوَ النَّبِيِّ مَحَبَّةٌ وَرِضَاءُ

يا صَاحِبَ الْمِعْرَاجِ فَوْقَ الْمُنْتَهَى

لَكَ وَحْدَكَ الْمِعْرَاجُ وَالْإِسْرَاءُ

يا وَاصِفَ الأَقْصَى أَتَيْتَ بِوَصْفِهِ

وَكَأَنَّكَ الرَّسَّامُ والبَنَّاءُ

فَالإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ إِخْوَةَ الإيمَانِ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ العَظِيمَةِ الدَّالَّةِ علَى نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم قَطْعًا. اللهمَّ اجْمَعْنَا بِحَبِيبِكَ مُحَمَّــدٍ فِي الفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى وَدَاوِنَا يِا رَبَّنَا بِنَظْرَةٍ مِنْهُ وَارْزُقْنَا شَرْبَةً مِنْ حَوْضِهِ لَا نَظْمَأُ بَعْدَهَا يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

هذا وأستغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ أَلَا فَاتَّقُوهُ وَخَافُوهُ.

اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ اللهم اجز الشيخ عبد الله الهرريّ رحمات الله عليه عنّا خيرًا.

عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة الإسراء / 1.

[2] وفي رواية مسلم أنه عليه الصلاة والسلام التقى سيدنا إدريس في السماء الرابعة والتقى بسيدنا هارون في الخامسة.

[3] النجم / 3-9.

[4] النجم / 13-15.

الآياتُ الْمُحْكَماتُ والآياتُ الْمُتَشابِهات

الحمدُ للهِ الّذِي أَنْزَلَ القُرْءَانَ هُدًى وَرَحْمَة، فيهِ ءَاياتٌ مُتَشابِهَاتٌ وَأُخَرُ مُحْكَمَاتٌ، فَأَنَارَ بِهِ بَصَائِرَ قَوْمٍ وَجَعَلَ قُلُوبَ قَوْمٍ مُقْفَلَة، فَمَنْ هَداهُ اللهُ فَبِفَضْلِهِ وَفَّقَه، وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ فَبِعَدْلِهِ خَذَلَهُ، سُبحانَهُ تَنَزَّهَ عَنِ الظُّلمِ وَمَا شاءَ فعلَ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على سيِّدِنا محمَّدٍ إِمامِ البَرَرَة، وعَلى ءالِه الطَّيِّبينَ ومَنْ على الإيمانِ صَحِبَهُ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إِلا اللهُ المعبودُ بِحَقٍّ وَحْدَهُ، وأشهدُ أَنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورَسُولُه، وصَلَّى اللهُ على سيدِنا محمَّدٍ وعلَى كُلِّ رسولٍ أَرْسَلَهُ.

أمّا بعدُ عبادَ اللهِ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العلِيِّ العَظِيمِ القَائِلِ في مُحكَمِ كِتابِه ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ مِنهُ ءَايَٰت مُّحكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰت فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنهُ ٱبتِغَاءَ ٱلفِتنَةِ وَٱبتِغَاءَ تَأوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلعِلمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّ مِّن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ ٧﴾[1].

إخوةَ الإيمانِ بيَّنَ ربُّنا تباركَ وتعالى أنَّ القرءانَ فيهِ ءَاياتٌ مُحْكَمَاتٌ وفيهِ ءاياتٌ مُتَشابِهات، فأَمّا المحكماتُ فهِيَ التِي دِلالَتُها علَى المرادِ وَاضِحَةٌ فَلا تَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغةِ إِلَّا وَجْهًا واحِدًا أى معنًى واحِدًا كقولِه تعالَى ﴿وَلَم يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُ ٤﴾[2] وقولِه تعالى ﴿لَيسَ كَمِثلِهِۦ شَيء﴾[3] وقَدْ سَمَّى اللهُ تباركَ وتعالَى الآياتِ المحكماتِ بِأُمِّ الكِتابِ أَيْ أُمِّ القُرْءَانِ لأنَّها الأَصْلُ الذِي تُرَدُّ إليهِ الآياتُ الْمُتَشَابِهَاتُ، وأغلَبُ ءاياتِ القُرءَانِ مُحْكَمَة.

Continue reading الآياتُ الْمُحْكَماتُ والآياتُ الْمُتَشابِهات