Category Archives: تعاليم إسلامية

لماذا نحتفلُ بولادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فهو المهتد ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له ولا شبيهَ لهُ، ولا حَيِّزَ وَلا جهةَ ولا مَكانَ له، ولا هيئَةَ ولا صُورةَ ولا شَكْلَ لَهُ، ولا جَسَدَ ولا جُثَّةَ ولا لونَ لهُ، ولا ضِدَّ ولا نِدَّ ولا حَدَّ لَهُ، سُبْحَانَه ليسَ كمثلهِ شَىءٌ وهو السميعُ البَصيرُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعيُنِنا محمدًا عبدُه ورسولُه ونبيُّه وصفيُّه وخليلُه، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِه وأصحابِه الطيبينَ الطاهرينَ.

أما بعدُ عبادَ اللهِ، فإِنِّي أُوصيكُمْ ونفسِي بتقوَى اللهِ العليِّ العظيمِ القائِلِ في كتابِهِ الكريمِ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلا سَدِيدا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١[1]

إخوةَ الإيمان، ماذَا عسَانا نقولُ مِنَ القَوْلِ السّديدِ في يَومِ مولدِ الحبيبِ سيدِنا محمد؟ يا رسولَ اللهِ أيّها الفَخْمُ الْمُفَخَّمُ والنبيُّ الْمُعَظَّمُ والحبيبُ الْمُكَرَّم .. يا صاحبَ الفَضْلِ علَى أُمَّتِكَ .. يَا مَنْ ءاثَرْتَ أُمَّتَكَ بِدَعْوَتِكَ التِي أَعْطَاكَ ربُّكَ فَقُلْتَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نبِيٍّ دَعْوَتَه[2] ولكنَّكَ اخْتَبَأْتَها شفَاعَةً لَهم فقلتَ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَة اهـ وذلكَ مِنْ رَحْمَتِكَ بِهِمْ وأنتَ كما وصفَكَ ربُّكَ في كتابِه ﴿بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم ١٢٨[3] ..  وأنتَ الذِي يُقالُ لكَ يومَ القِيامَةِ يَا محمّدُ سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَأَنْتَ الذِي تَقُولُ أَيْ رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي[4] اﻫ .. وأَنْتَ الذِي أَرْشَدْتَ لِلْخَيْرِ، فَجَزَاكَ اللهُ عنْ هذِه الأُمَّةِ  خيرَ الجزَاء.

Continue reading لماذا نحتفلُ بولادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

الإجماعُ وَالبِدْعَةُ الحسنَةُ والاحتِفالُ بِمَولِدِه صلى اللهُ عليه وسلم والتحذيرُ مما وردَ في كتابِ مولِدِ العَرُوس

إنَّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونتوبُ إليهِ، ونَعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنا وحَبِيبَنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفِيُّهُ وخليلُه مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رَحمةً للعالَمينَ هادِيًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإِذْنِه وسراجًا منيرًا، بلَّغَ الرِّسالةَ وأدَّى الأمانَةَ ونَصحَ الأُمَّةَ فجزَاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جزَى نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيائِه، اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمدٍ وعلى ءالِه وأصحابِه الطَّيِّبينَ الطاهرين. وبعد عباد الله فإنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَديرِ القَائِلِ في مُحكمِ كتابِه {وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥}[1] إخوةَ الإِيمانِ دَلَّتْ هَذِه الآيَةُ الكريمَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ النَّجاةَ علَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ سبيلَ الْمُؤْمِنينَ أي ما أَجْمَعَ عليهِ عُلمَاءُ المسلمينَ وأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذلك فجَزَاؤُهُ جهنَّمُ وبِئْسَ المصِيرُ وجاءَ في الحديثِ الْمَوقوفِ عنِ الصحابِيِّ الجليلِ عبدِ اللهِ بن ِمسعودٍ أنهُ قالَ مَا رَءَاهُ المسلِمونَ حسنًا – Continue reading الإجماعُ وَالبِدْعَةُ الحسنَةُ والاحتِفالُ بِمَولِدِه صلى اللهُ عليه وسلم والتحذيرُ مما وردَ في كتابِ مولِدِ العَرُوس

الأشاعرةُ والماتُريديةُ

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ ِمنْ شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِه اللهُ فلا مضلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشّرًا ونذيرًا بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جَزى نبيًّا مِنْ أنبيائهِ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على سيِّدِنا محمَّدٍ الأَمينِ وعلَى ءالِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.

أما بعدُ عِبادَ اللهِ أُوصِي نفسِي وأُوصِيكُمْ بِتقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ فَاتقُوهُ وأُوصِيكُمْ بِالثَّباتِ عَلَى نَهْجِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والتِزامِ سبيلِ الْمُؤْمِنينَ يقُولُ اللهُ تعالَى في القُرءانِ الكَريمِ ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾[1].

وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في ما رَواهُ التِّرمِذِىُّ وغيرُهُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ معَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثنَيْنِ أَبعَدُ فَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجنَّةِ فلْيلْزَمِ الْجَمَاعَةَ اﻫ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وَإِنَّ هذهِ الْمِلَّةَ سَتفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ثِنتَانِ وَسَبعُونَ فِي النّارِ ووَاحِدَةٌ فِي الجنَّةِ وَهِىَ الجمَاعَةُ اﻫ أَىِ السَّوادُ الأَعْظَمُ أَىْ جُمهورُ الأُمَّةِ كَمَا فِي رِوَايةِ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادَ الأَعْظَمَ.

أحبَابِى لَقَدْ بَيَّنَ لنا الحبيبُ المصطَفَى صلى الله عليه وسلم أنَّ هذهِ الأُمَّةَ سَيَحْصُلُ فيهَا اخْتِلافٌ وَأَنَّهَا سَتَخْتَلِفُ إلَى فِرَقٍ وَأَنَّ كُلَّهَا فِي النَّارِ إِلَّا واحِدَةً وَبَيَّنَ لَنَا أَيْضًا كَيْفَ نُمَيِّزُ هذهِ الوَاحِدَةَ وذلكَ بِالعَلامَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِىَ أَنَّها الجمَاعَةُ أَىِ السَّوادُ الأَعْظَمُ أَىْ جُمهورُ الأُمَّةِ أَىْ أَكْثرُها وأَغْلَبهَا والحمدُ للهِ علَى ذَلكَ. فَجُمْهُورُ الأُمّةِ المحمَّدِيَّةِ مِنْ زَمَنِهِ عليهِ السلامُ إلَى زَمانِنَا علَى الْهُدَى مِنْ حَيْثُ أَصْلُ الْمُعْتقَدِ وَإِنِ اخْتلَفُوا فِي بَعضِ الفُروعِ فَكُلُّهُمْ على تَوحيدِ اللهِ وتنْزِيهِهِ عَنْ مُشابَهَةِ الْمَخْلوقِينَ وَتنْزِيهِهِ عَنِ الْحَجْمِ والجِهَةِ والحَدِّ والْمَكانِ وكُلُّهُمْ علَى اعْتِقَادِ أَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىءٍ مِنَ الأعيانِ والأَعْمَالِ وأنَّ أَعمالَ العِبادِ بِخَلْقِ اللهِ لا بِخلقِ العبادِ إنَّما بِكسبِهِمْ وكلُّهم على اعتقادِ أنهُ لا يدخُلُ شىءٌ في الوُجودِ إلّا بِمشيئةِ اللهِ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وأَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ شَىءٌ لَمْ يُرِدِ اللهُ حُصُولَهُ وأَنَّ الخيرَ وَالشَّرَّ كِلَيْهِمَا بِمشيئةِ اللهِ وتقْديرِه وأنَّ اللهَ أَرْسلَ الأنبياءَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ وَأَنَّ أولَهُمْ ءَادَمُ وءاخِرَهُمْ سيِّدُنا محمدٌ إمامُ المرسَلِينَ وَسَيِّدُ ولَدِ ءادمَ أجمعينَ وأنَّ الأنبياءَ اصطْفاهُمُ اللهُ وَخَصَّهُمْ بِالْحِفْظِ وَالْعِصْمَةِ مِنَ الكُفرِ وكبائِرِ الذُّنوبِ وصَغائِرِ الخِسَّةِ وسائِرِ الخسائِسِ والأمراضِ الْمُنَفِّرَةِ وكلُّهم يُؤمنونَ بِالجنَّةِ والنارِ أَنَّهُمَا مَوْجُودتانِ وبَاقِيتَانِ إلَى مَا لا نِهايَةَ لهُ وكلُّهم مُقِرُّونَ بِالبعْثِ وَالحَشْرِ والحِسابِ والعِقَابِ وسائرِ ما ثبَتَ وُرودُهُ في الشَّرْعِ وَلَمْ يَشُذَّ عنهُمْ إِلّا شِرْذِمَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَليلَةٌ جِدًّا إِذَا مَا قُورِنَتْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ فَمِنْهُمُ الْمُجَسِّمَةُ الذينَ وَصَفُوا اللهَ بأَوصافِ الأجسامِ ونَسَبُوا للهِ الْحَجْمَ والمكانَ والأَعضاءَ والحرَكةَ والانْتِقَالَ والتغَيُّرَ والانفِعَالَ والصُّعودَ والنزُولَ وغيرَ ذلكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقينَ فَخَرَجُوا عن دَائِرَةِ التَّوحيدِ وَوَقعُوا فِي الكُفْرِ الشَّنِيعِ وَمِنهُمُ الْمُرْجِئَةُ والقَدَرِيَّةُ الذينَ أخبَرَ عنهُمُ الرسولُ فقالَ صِنفَانِ مِنْ أُمَّتِى لَيْسَ لَهُما فِي الإِسلامِ نَصيبٌ الْمُرْجِئَةُ والقَدَرِيَّةُ اﻫ[2]، والمرجئةُ فِرْقَةٌ ظهَرَتْ فِي الماضِى وانقَرَضَتْ كانُوا يقولونَ كلامًا هو ضِدُّ الدينِ كانُوا يقُولُونَ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمانِ ذَنْبٌ أَىْ بِزَعْمِهِمْ مهمَا فعَلَ المؤمِنُ مِنَ الذُّنوبِ لا مُؤَاخَذَةَ عليهِ في الآخرةِ فَكَذَّبُوا الدِّينَ وخَرَجُوا بذلكَ عَنْ دَائرةِ المسلِمين. أمَّا القَدَرِيَّةُ فقد رَوَى أبو دَاودَ في سُنَنِهِ عنِ الصّادِقِ الْمَصْدوقِ أنهُ قالَ فيهِم لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ ومَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الّذينَ يقُولونَ لا قَدَرَ مَنْ مَاتَ مِنهُمْ فَلا تَشْهَدُوا جَنازَتَهُ وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلا تَعودُوهُمْ وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ ــ أي مُناصِرُوه ــ وَحَقٌّ علَى اللهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجالِ اﻫ فَالقَدَرِيَّةُ هُمُ الذِينَ يَكْفُرُونَ بِالْقَدَرِ أَىْ ينْكِرُونَ تقْدِيرَ اللهِ لِبعْضِ الأَشياءِ وقد قالَ العُلماءُ إنَّ مَنْ قَالَ عَنْ شىءٍ وَاحِدٍ إِنَّهُ يحصُلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللهِ فقَدْ كَفَرَ. وَمِنَ الفِرَقِ التِى شَذَّتْ عَنْ جَماعةِ المسلمينَ الخَوارِجُ الذينَ قَالُوا بِكُفْرِ مُرْتَكِبِ الكَبيرَةِ بل مِنهُمْ مَنْ يُكَفِّرُ الحاكِمَ إِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ الشَّرْعِ وإِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذلكَ وَلَوْ فِي مسئلَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ يُكَفِّرونَ الرَّعِيَّةَ كذلكَ وَافقُوهُمْ أَمْ لا إِلّا مَنْ ثَارَ عَلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا بِنَاءً على ذلكَ دِماءَ المسلمينَ وأموالَهُمْ ونتَجَ بسبَبِهم أَنْواعُ الفِتَنِ وَالدَّمارِ علَى مَرِّ العُصُور.

إخوةَ الإيمانِ، فِي القَرْنِ الثَّالِثِ الهجرِيِّ كَثرَتِ الفِرَقُ الشاذَّةُ فَقَيَّضَ اللهُ تبارَكَ وتعالَى في أوَاخِرِ ذلكَ العَصْرِ إِمامَينِ أحدُهُما عَرَبِيٌّ والآخَرُ أَعْجَمِيٌّ، أمَّا العَرَبِيُّ فهو أبو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ وَكانَ بِالعِراقِ وَأَمَّا الأَعجَمِيُّ فهُوَ أبو مَنْصُورٍ الماتُريدِيُّ وكانَ بِبِلادِ فَارِس فقامَا وتلاميذُهما من بعدِهِما بِالرَّدِّ علَى الفِرَقِ الشَّاذَّةِ وتَقريرِ العقيدَةِ الصّحيحةِ بالأَدِلَّةِ والبَراهينِ حتَّى انْحَسَرَ أهلُ الضَّلالِ وانْكَسَرُوا فنُسِبَ إليهِمَا أَهْلُ السنَّةِ فصَار يُقالُ لأَهْلِ السُّنَّةِ أَشْعَرِيُّونَ ومَاتُريدِيُّونَ وشَاهِدُ الوُجودِ أَىِ الوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ يَشهَدُ علَى ذَلِكَ فلَوْ نَظَرَ الْمُحَقِّقُ إلَى عُلماءِ الأُمةِ في مُخْتلَفِ العُلومِ مِنْ زَمَنِ هذَيْنِ الإِمامَيْنِ إلَى زَمانِنا لَوَجَدَ أَنَّهُمْ إِمَّا أشاعرةٌ أو ماتريديةٌ والحمدُ للهِ على ذلك.

أحبَّتِى رَوَى الحاكِمُ في المستَدْرَكِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا نزَلَ قولُهُ تعالَى ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡم يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ﴾ الآيةَ[3] قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُمْ قومُكَ يا أَبا مُوسَى وأَوْمَأَ بيدِه إلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وقالَ الإِمامُ القُشَيْرِيُّ “أَتباعُ أبِي الحسَنِ الأَشْعَرِيِّ مِنْ قَومِه”. وَقَدْ مدَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا الفاتِحَ رَحمهُ اللهُ الذِى كانَ مَاتريدِيَّ العقيدَةِ كمَا هُو مَعْلُومٌ وذلكَ في الحديثِ الذِي روَاهُ الإِمامُ أحمدُ والحاكِمُ بسنَدٍ صَحِيحٍ عنِ الصَّادِقِ المصدُوقِ حَبيبِ ربِّ العَالَمينَ، فَبِاللهِ عليكُمْ هل يَمْدَحُ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ خَالَفَهُ فِي العَقيدَةِ؟ هَلْ يَمْدَحُ النبيُّ مَنْ خالفَ نَهْجَهُ ومَا جَاءَ بِهِ مِنَ الحقِّ؟ لا وَاللهِ فَهذَانِ الخبَرانِ يَدُلّانِ على أَنَّ الأشاعرةَ والماتريديّةَ هُمَا علَى الحقِّ والصوابِ ويَكْفِى شَاهِدًا على ذلكَ أَنَّ ملايينَ المسلمينَ في أَقْطَارِ الأَرْضِ علَى مذهَبِ هذينِ الإِمامينِ الجلِيلَيْنِ فَالشافعيَّةُ بِغَالِبِهِمْ والمالِكيَّةُ كُلُّهُمْ وَفُضَلاءُ الحنَابِلَةِ وبَعضُ الحنَفِيَّةِ أشاعرِةٌ وأَغْلَبُ الحنَفِيَّةِ وبعضُ الشافعيَّةِ مَاتُريدِيّةٌ وَكُلُّهم مُتَّفِقُونَ في الأُصولِ لا يَخْتَلِفُونَ وتُوافِقُ أصولُهُمْ أُصولَ الصَّحابَةِ والتابِعينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإِحسانٍ.

فنَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يثَبِّتَنا علَى عقيدَةِ هَذَيْنِ الإِمامينِ الجَليلَيْنِ أَبِى الحسَنِ الأَشْعَرِىِّ وأبِى منصورٍ الماتريدىِّ عقيدةِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ وأَنْ يُميتَنا عليهَا بِجَاهِ الأَنْبِياءِ وَالْمُرْسَلينَ هذَا وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه.

اللهم إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهم لنا ذُنوبنَا وإِسرافنَا في أمرِنا، اللهم ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ وأَدْخِلْنَا الجنَّةَ مَعَ الأَبْرَارِ يَا عَزِيزُ يَا غَفَّار اللهم اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ اللهم اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة النساء/115.

[2] رواه الترمذي.

[3] سورة المائدة/54.

الحذر من الإفتاء بغير علم

الحمدُ للهِ الّذِي عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَقَيَّضَ لِهَذَا الدِّينِ رِجَالًا يُفْتُونَ بِعِلْمٍ فَإِذا لَمْ يَعْلَمُوا لَمْ يغفلوا لَا أَعْلَمُ، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهدِ اللهُ فلا مُضلَّ لَه ومَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شريكَ لَهُ وَلَا شَىْءَ مِثْلُهُ وَلا شَىءَ يُعْجِزُهُ، لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ وَلَا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ وَلَا يُشْبِهُ الأَنَام. وأشهدُ أنَّ سيّدَنا محمدًا عبدُ اللهِ الْمُصْطَفَى وَنَبِيُّهُ الـمُجْتَبَى ورسولُهُ الـمُرْتَضَى، وأَنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ المرسلينَ وحَبِيبُ رَبِّ العالَمين. فَصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ وعلَى ءالِهِ الطَّاهِرِينَ وصحابَتِهِ الـطَّيِّبِينَ وَسَلَّمَ.

أما بعدُ فَأُوصِي نَفْسِي وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ أَلَا فَاتَّقُوه وَخَافُوه وَأْتَمِرُوا بِأَوَامِرِهِ وَانْتَهُوا عَنْ نَواهِيهِ واثْبُتُوا علَى هَدْيِ النبِيِّ محمدٍ عليهِ أفضَلُ الصَّلاةِ وأَتَمُّ التَّسْلِيم.

اعلَمُوا إِخْوَةَ الإِيمَانِ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعالَى سَائِلٌ عَبْدَه يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ كلامِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفُؤَادِهِ وَأَنَّ اللهَ سَائِلٌ عَبْدَه عَنْ قَوْلِهِ في الدُّنْيَا هَذَا يَجُوزُ وهذَا لَا يَجُوزُ فقَدْ قالَ رَبُّنا تبارك وتعالى في القُرءانِ الكَريم ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولا ٣٦﴾[1] أَيْ لَا تقُلْ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَالفَتْوَى بغيرِ عِلْمٍ مِنَ الكَبَائِرِ، رَوَى الحَافِظُ ابنُ عَسَاكرَ[2] أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ ملائكَةُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ اهـ فَإِذا كانَ الأَمْرُ كذلكَ إِخْوَةَ الإيمانِ فَمَا مَعْنَى أَنْ يُفْتَى بِعِلْمٍ، وَاسْمَعُوا مَعِي فَإِنَّ الذِي يُفْتِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا في الفُتْيَا لِمُجْتَهِدٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَجَرِّئًا علَى الفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ. أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَهُوَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتِهَادِ أَيْ مَنْ يَجُوزُ لهُ ذلكَ بِنَاءً عَلَى صِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ وَشُرُوطٍ لَا بُدَّ أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ، وَهِيَ ليسَتْ موجودَةً في أَغْلَبِ أَهْلِ العَصْرِ. قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمهُ الله ولا يكونُ الشَّخْصُ أَهْلًا لِلاجْتِهَادِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ السُّنَنِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلافِ العُلَمَاءِ حَتَّى لَا يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ، وَأَنْ يكُونَ عَالِمًا بِلُغَةِ العَرَبِ وَمَعَانِي مَا وَرَدَ في النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ علَى وَفْقِ كَلَامِ العَرَبِ. ويُشْتَرَطُ في الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ حافِظًا لآياتِ الأحكامِ وأحاديثِ الأحكامِ ومع معرفَةِ أسانيدِها ومعرفةِ أحوالِ رِجالِ الإِسْنَاد وَمَعْرِفَةِ النّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ والعَامِّ والخَاصِّ  وَالْـمُطلَقِ وَالْـمُقَيَّدِ مَعَ فِقْهِ النَّفْسِ أَيْ قُوَّةِ الفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ وَمَعَ العَدَالَةِ، فَمِثْلُ هَذَا إِنْ أَفْتَى يُفْتِي عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ. وَأَيْنَ يُوجَدُ مَنْ يَجْمَعُ كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ في هَذَا الزَّمَنِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الشَّخْصُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَيَعْتَمِدُ علَى فَتْوَى إِمَامٍ مُجْتَهِدٍ أَيْ ينقُلُ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسْأَلَة. وأَمَّا مَنْ تَسَوَّرَ مَرْتَبَةً لَيْسَ أَهْلًا لَهَا فَصَارَ يُفْتِي النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، صارَ يُفْتِي الناسَ على وَفْقِ هَواهُ فَهُوَ خَائِبٌ خَائِنٌ يَفْضَحُهُ اللهُ تباركَ وتعالى في الدُّنيا قَبْلَ الآخِرَةِ كَمَا قَالَ إِمَامُنَا الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ مَنْ سَامَ بِنَفْسِهِ فَوْقَ مَا يُسَاوِي رَدَّهُ اللهُ تعالَى إِلَى قِيمَتِه[3] اهـ

Continue reading الحذر من الإفتاء بغير علم