الكِبْرُ هُوَ رَدُّ الحقِّ وغَمْطُ النَّاس

إنَّ الحمدَ للهِ الذِى كَمَّلَ ذَوِي الأَحْلامِ بِتَعْرِيفِهِمْ عِلْمَ الحلالِ والحرام، وهَداهُمْ لاسْتِخْرَاجِ دُرَرِ الأَحْكَام، فَاسْتَخْرَجُوها مِنْ بَحْرِها وأَوْدَعُوها كَنْزَهَا بِدَقَائِقِ الأَفْهَام، وبيَّنُوها للنَّاسِ رَحْمَةً بِالأَنام، والصلاةُ والسلامُ على سيّدِنا محمّدٍ مَنْ أتَى بِالكلامِ الحسَنِ واختُصِرَ لَهُ الكلامُ وعلى ءالهِ وأصحابِه الطيبينَ الطاهرينَ ما مرَّتِ السّنونَ والأَيَّامُ.

أما بعدُ عبادَ اللهِ فإنِّي أوصيكم ونفسِي بتقوى اللهِ العليِّ العظيمِ فَاتَّقُوه.

قالَ رَبُّنا جلَّ وَعَزَّ في مُحكَمِ كِتابِه {تِلكَ ٱلدَّارُ ٱلأخِرَةُ نَجعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي ٱلأَرضِ وَلَا فَسَادا وَٱلعَٰقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ
٨٣}[1]
وقال تعالى أيضا {وَلَا تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمشِ فِي ٱلأَرضِ
مَرَحًا إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُختَال فَخُور ١٨ }[2]
.

إخوةَ الإيمانِ والإِسلامِ اعلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ بتوفيقِه أنَّ مِنْ ذُنوبِ القَلْبِ الكِبْرَ وهُوَ صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ قد نَهَى اللهُ تبارك وتعالى عنها في القرءانِ الكريمِ بآياتٍ منهَا ما ذكرناهُ فإِنَّ معنَى قولِه تعالَى {وَلَا تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أَىْ لا تُعْرِضْ عنهُمْ مُتَكَبِّرًا بَلْ أَقْبِلْ بِوَجْهِكَ مُتَواضِعًا وَلا تُوَلِّهِمْ شِقَّ وَجْهِكَ كمَا يَفْعَلُ الْمُتَكَبِّرونَ وَقَدْ نَهانَا اللهُ تعالَى عَنْ أَنْ نَمْشِىَ مِشْيَةَ الكِبْرِ والفَخْرِ بقولِه عز وجلَّ {وَلَا تَمشِ فِي ٱلأَرضِ مَرَحًا} وقد بيَّنَ لنا رسولُ اللهِ النبيُّ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ كثيرَةٍ معنَى الكِبْرِ وعاقِبَتَه وكيفَ أَنَّ الكِبْرَ يكونُ في كثيرٍ منَ الأَحيانِ سَبَبًا لِمَشَاكِلَ كثيرَةٍ تَعْتَرِضُ الكَثيرينَ في حَياتِهِمُ الدُّنيويّةِ فضلا عمَّا يُؤَدِّى بِصاحِبِه إليهِ منَ العَذَابِ الأَليمِ فِي الآخِرَةِ.

فقد صحَّ عنِ النبيِّ الأعظمِ محمدٍ عليه أفضلُ الصلاةِ وأَتَمُّ التَّسليمِ أنهُ قالَ في ذَمِّ الكِبرِ لا يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبر اﻫ رواهُ مسلِم، أى لا يدخُلُها معَ الأَوَّلِينَ، والذَّرَّةُ هىَ الهباءُ الذِى يُرَى عندَ دخولِ نُورِ الشَّمسِ مِنَ الكَوَّةِ إلَى الغُرفَةِ المظلِمَة. وَصَحَّ أيضا عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِر اﻫ مُتَّفَقٌ عليهِ. وعَرَّفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الكِبْرَ فقالَ الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ رواهُ مسلمٌ ومَعْنَى بَطَرِ الحقِّ دَفْعُهُ ورَدُّهُ علَى قَائِلِه، ومعنَى غَمْطِ النَّاسِ احْتِقَارُهُم.

فَيُفْهَمُ مِنْ حَديثِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّ المتكَبِّرَ هوَ الذِى يَرُدُّ الحقَّ على قائِلِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ القائِلَ مُحِقٌّ إِمَّا لِكَوْنِه صَغِيرًا أَوْ فَقِيرًا أو تلميذًا أو ضعيفًا أو نحوَ ذلكَ فيقولُ في نفسِه “كيفَ أرجِعُ عن رأيِى هذا لقولِ هذَا التّلميذِ أوِ الصغيرِ وأَنا أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا” فَلَوْ أَنَّ صَغيرًا تلَقَّى العِلْمَ الشرعىَّ الصحيحَ ثم رأَى رجلا كبيرًا في السّنِّ أخلَّ برُكْنٍ مِنْ أركانِ الصلاةِ أو بِشَرْطٍ مِنْ شُروطِها أَوْ فِي وُضوئِه مثلا فَنَصَحَهُ فَرَدَّ الكَبيرُ النصيحةَ لأَنَّهُ أَنِفَ أَنْ يُصلحَ لهُ الصغيرُ يكونُ هذَا الكبيرُ قَد تكبَّرَ عَنْ قَبولِ الحقِّ مِنْ قائِلِه ومِثْلُهُ الآباءُ الذينَ لا يَقْبَلُونَ نُصْحَ أبنائِهم ظَنًّا منهُمْ أنَّ في ذلكَ إظهارًا لِضَعْفِهِمْ وكَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُخْطِئُوا في أَمْرٍ وَيُصيبَ أولادُهم فيهِ ولو أنَّهم عرَفُوا عاقبةَ المتَكَبِّرِ وما يَجِدُ مِنَ العذَابِ لَمَا تَأَخَّرُوا عَنْ قَبُولِ النَّصيحَةِ لَحْظَة.

وأمَّا اسْتِحْقَارُ النَّاسِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَعْظِمَ المرءُ نَفْسَهُ فَيَرَى النَّاسَ دُونَهُ وَهُوَ فوقَهُمْ وأفضل منهم.

وللكِبرِ صورٌ منها إِسبالُ الثَّوبِ لِلْخُيَلاءِ أى للفخرِ فهذا حرامٌ كعادَةِ بعضِ الملوكِ والأغنياءِ مِنْ تَطْوِيلِ الثَّوبِ وجَرِّهِ علَى الأرضِ للتَّباهِي فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مَنْ جَرَّ ثوبَهُ خُيَلاء لَمْ ينظُرِ اللهُ إليهِ يومَ القيامةِ اهـ أَىْ لَمْ يُكرِمْه بَلْ يعذبه فقالَ له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضى الله عنه يا رسولَ اللهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّىْ إِزَارِى يَسْتَرْخِى إِلا أَنْ أَتَعاهَدَ ذَلكَ مِنْهُ، فقالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيُلاء اﻫ رواهُ البُخَارِىّ.

ومِن صُوَر الكِبْرِ مَا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ أي شعرَ رأسِهِ الْمُتَدَلِّي إلى المنكبينِ يَخْتَالُ في مِشْيَتِهِ أَيْ يَمْشِي مِشْيَةَ الْمُتَكَبِّرِينَ إذْ خَسَفَ اللهُ بهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ أي في الأَرْضِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ اﻫ رواهُ البُخَارِىُّ ومسلمٌ، أَىْ هُوَ يَغُوصُ في الأرضِ وَيَنْزِلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.

وَاعْلَمْ أَخِي المسلمَ أَنَّ مِنَ الكِبْرِ مَا هُوَ كُفْرٌ كَكِبْرِ بَعْضِ الْمُشْرِكينَ إِذْ إِنَّهُمْ عَرَفُوا أن سَيِّدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم قَدْ جَاءَ بِالْحَقِّ ومعَ ذلكَ رَدُّوا دَعْوَتَه وعَارَضُوهُ كَيْ لَا يُقَالَ عَنْهُمْ تَرَكُوا مَا كانَ عَلَيْهِ ءَابَاؤُهُمْ وَهُمْ أَسْيَادٌ عِنْدَهم واتَّبَعُوا النبيَّ الأمّيَّ بِدَعْوَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ غَالِبُهُمْ مِنَ الفُقَراءِ والضُّعَفَاءِ.

فاحرِصوا عبادَ اللهِ على تَصْفِيَةِ قلوبِكم مِنَ الكِبرِ هذَا الداءِ الْمُفْسِدِ والصّفةِ المذمومةِ، ولا يَخْفَى مَا فِي مَنْزِلَةِ التواضُعِ مِنْ شَرَفٍ عظيمٍ وقَدْرٍ رَفِيع، كيفَ لا والنبِيُّ الأعظمُ محمّدٌ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سيِّدُ الْمُتواضِعينَ وإِمامُ المتّقين كان يقولُ اللهمَّ أَحْيِنِى مِسْكِينًا أي مُتَواضِعًا وَأَمِتْنِى مِسْكينًا أَىْ مُتَواضِعًا وَاحْشُرْنِى فِي زُمْرَةِ الْمَساكِين اهـ ـ أي المتواضعين ـ رواهُ الترمذِىُّ وابنُ ماجه، فصلّى اللهُ على سيِّدي رسولِ اللهِ نِعْمَ الأسوةُ ونِعْمَ القدوةُ ورَزَقَنا اللهُ حسنَ اتِّباعَهُ.

هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم

الخُطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ المؤمِنينَ وءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلفاءِ الرَّاشدِينَ أبِي بكرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أبِي حنيفَةَ ومَالِكٍ والشافِعِيِّ وأحمَدَ وعنِ الأولياءِ والصَّالحينَ أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه.

إخوةَ الإيمانِ يحضُرُنِي في هذا المقامِ التنبيهُ علَى مسألةٍ مُهِمّةٍ أَلَا وهِيَ أَنَّ مِنَ العباراتِ الفاسدةِ الْمُنْتَشِرَةِ التِي يَجبُ التّحذيرُ منها قولَ بعضِ الناسِ مِمّنَ لم يهتمَّ بِعلمِ الدينِ “التّكبُّرُ علَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقة” فإنَّ هذهِ العبارةَ فاسدَةٌ ومن يقولُها يكونُ قد خالفَ الدّينَ لأنَّ اللهَ تعالى أمرَ عبادَهُ بالعفوِ والإِحسانِ والتواضُعِ معَ الْمُحْسِنِ ومعَ الْمُسِيءِ فإِنْ أرادَ القائلُ أَنَّ مُجافاةَ هذا المتكبِّرِ تزجُرُهُ عنِ التّكبُّرِ فتكون صدقةً حقيقةً فلا ضرَرَ عليهِ فِي العقيدَةِ، ولكن يُعَلَّمُ أنَّ هذهِ العبارةَ لا يَجوزُ قولُها وأمّا إِنْ أَرادَ أَنَّ الوُقوعَ في ذَنْبِ التّكَبُّرِ صَدَقةٌ فيهَا ثَوابٌ فهذَا تكذيبٌ للقرءانِ والحدِيثِ وخُروجٌ مِنَ الدّين.

اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمَّ بِجاهِ نَبِيِّكَ محمَّدٍ ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ وأَدْخِلْنَا الجنَّةَ مَعَ الأَبْرَارِ يَا عَزِيزُ يَا غَفَّار اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة القصص.

[2] سورة لقمان.