التوكُّلُ والصَّبْرُ علَى المصائِب

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ ولا شبيهَ له ولا مِثْلَ ولا نِدَّ لَهُ، وَلا حَدَّ ولا جُثَّةَ وَلا أعضاءَ لَه، أحدٌ أحدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يكن لَهُ كفوًا أَحَد، وَأشْهدُ أنَّ سيّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه وصَفيُّهُ وحبيبُه. اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ على سيِّدِنا محمّدٍ أشرفِ المرسلينَ وسيدِ الأَوّلينَ والآخِرينَ وعلَى ءالِه وأصحابِه الغُرِّ الميَامِين.

أما بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ القَائِلِ فِي مُحكَمِ كِتابِه ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجا ٢ وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُ﴾[1] فَلْيَكُنِ اعْتِمَادُكَ أَخِي المسلمَ علَى اللهِ في الحِفْظِ والرِّزقِ لأنهُ خالقُ كُلِّ شَىءٍ مِنَ المنافِعِ وَالْمَضَارِّ وسائِرِ مَا يَدْخُلُ فِي الوُجودِ ولا يكونُ إِلا مَا شاءَ اللهُ واتَّقِ اللهَ حيثُمَا كُنْتَ وَلا يَكُنْ هَمُّكَ رِضَا الناسِ لِكَسْبِ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَدْحٍ بَلِ اتَّقِ اللهَ وَلا تُبَالِ وَكُنْ كَمَا قَالَ القَائِلُ

إِنْ صَحَّ مِنْكَ الرِّضَا يَا مَنْ هُوَ الطَّلَبُ   فَلَسْتُ أُبَالِي بِكُلِّ النَّاسِ إِنْ غَضِبُوا

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والجنُّ لِيَضُرُّوكَ بشىءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَىءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عليكَ وَلَوِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والجنُّ لِيَنْفَعُوكَ بِشَىء لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَىءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ فَفَوِّضْ أَمْرَكَ إلى اللهِ وَثِقْ بِاللهِ فمَا شاءَ اللهُ كانَ ومَا لَمْ يَشأْ لَمْ يَكُنْ.

وتذَكَّرْ دائمًا يا أخِي المسلمَ أنَّنا لَسْنَا فِي الجنَّةِ بَلْ نحنُ الآنَ في الدنيا وهذه الدنيا هيَ دارُ بَلاءٍ فالدُّنيا تَغُرُّ وتَضُرُّ وتَمُرُّ فتوَكَّلْ علَى اللهِ وَاصْبِرْ علَى ما ابتلاكَ اللهُ بهِ وَإِيَّاكَ والاعترَاضَ على اللهِ فإنهُ تعالَى ﴿لَا يُس‍َلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُس‍َلُونَ ٢٣﴾[2] لأنهُ تبارك وتعالى هو خالقُ كلِّ شىءٍ ومالِكُ كلِّ شىءٍ ويفعَلُ في مِلْكِه ما يشاءُ بَلِ اصْبِرْ كمَا أمَرَ اللهُ تبارَكَ وتعالَى في القرءانِ الكريم ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ ٱلخَوفِ وَٱلجُوعِ وَنَقص مِّنَ ٱلأَموَٰلِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٥٥ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَٰبَتهُم مُّصِيبَة قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦﴾[3] فإذا أَصابَتْكَ مصيبةٌ أخِي المسلمَ فاقتدِ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في صبرِه فقد روى البخاريُّ في الصحيحِ عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه حيثُ دخَلَ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ لِيَرَى ابنَهُ إبراهيمَ وَهُوَ يُحْتَضَرُ فأخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إبراهيمَ فقبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثمّ دَخَلْنَا عليهِ بعدَ ذلكَ وإبراهيمُ يجودُ بنَفْسِهِ فجَعَلَتْ عينَا رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ فقالَ لَهُ عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وأنتَ يا رسولَ اللهِ فقالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى فقالَ صلى الله عليه وسلم إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ والقَلْبَ يَحْزَنُ وَلا نَقُولُ إِلّا مَا يَرْضَى رَبُّنا وإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إبراهيمُ لَمَحْزُونون اﻫ صلّى عليكَ اللهُ يا سيدِي يا رسولَ الله.

إخوةَ الإيمانِ أَقْسَمَ اللهُ تعالَى في القرءانِ في سورَةِ البَلَدِ أنَّ الإنسانَ خُلِقَ في شِدَّة .. في نَصَبٍ .. في تَعَبٍ فقالَ اللهُ تباركَ وتعالَى ﴿لَقَد خَلَقنَا ٱلإِنسَٰنَ فِي كَبَدٍ ٤﴾[4] فأوَّلُ مَا يُكابِدُ الإنسانُ قَطْعُ سُرَّتِهِ ثم إذَا شُدَّ عليهِ القِمَاطُ يُكابِدُ الضِّيقَ والتَّعبَ ثم يُكابدُ الارتِضاعَ وَلَوْ فاتَهُ لضَاعَ ثُمَّ يكابدُ نَبْتَ أسنانِهِ وتَحَرُّكَ لِسانِه ثُمَّ يُكابِدُ الفِطَامَ الذِي هُوَ أَشَدُّ عليهِ مِنْ بَعضِ اللطامِ ثم يكابدُ الخِتانَ والأَوجاعَ والأحزانَ ثم يكابدُ المعلِّمَ وصَوْلَتَهُ والْمُؤَدِّبَ وسياستَه والأستاذَ وهيبَتَه ثم يكابدُ شُغْلَ التَّزويجِ والتعجيلِ فيهِ ثم يكابدُ شغلَ الأَولادِ وَالخدمِ ثم يكابدُ شُغْلَ الدُّورِ وبناءَ القُصورِ ثم الكِبَرَ والْهَرَمَ وضَعْفَ الرُّكبَةِ والقَدَمِ فِي مَصائِبَ يَكْثُرُ تَعْدَادُها ونَوائِبَ يَطُولُ إيرادُها مِنْ صُدَاعِ الرَّأسِ ووَجَعِ الأَضْرَاسِ وَرَمَدِ العَيْنِ وغَمِّ الدَّينِ ووَجَعِ السِّنِّ وأَلَمِ الأُذُنِ وَيُكابِدُ مِحَنًا فِي المالِ وَالنَّفْسِ مِثْلَ الضَّرْبِ والحَبْسِ وَلا يَمْضِي عليهِ يَوْمٌ إِلّا وَيُقَاسِي فيهِ شِدَّةً ويُكابِدُ فيهِ مَشَقَّةً ثُمَّ الموت بعدَ ذلكَ كُلِّهِ ثُمَّ سُؤال الملكينِ ثم البعث والعرْض على اللهِ إلَى أن يستَقِرَّ بهِ القَرارُ إمَّا في الجنّةِ وإما في النارِ فَلَوْ كانَ الأمرُ إلَى الإنسانِ لَمَا اخْتَارَ هذهِ الشدائدَ كلَّها، وذلكَ يَدُلُّ علَى أَنَّ لِلْإِنسانِ خَالِقًا دَبَّرَهُ وقضَى عليه بهذِه الأحوالِ فَلْيَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، فامتَثِلُوا أَمْرَ اللهِ إخوَةَ الإيمانِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وتواصَوْا بالصَّبْر. والصّبرُ أيها الأخُ الكَريمُ هو حَبْسُ النَّفْسِ وقَهْرُها علَى مَكْرُوهٍ تَتَحَمَّلُهُ أَوْ لَذِيذٍ تُفارِقُه، فعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ علَى مَا ابْتَلاكَ اللهُ بهِ ولا تَعْصِ اللهَ بِسَبَبِ مُصيبَةٍ نَزَلَتْ بِكَ بَلِ اصْبِرْ وَاقْهَرْ نَفْسَكَ وَاحْبِسْ نَفْسَكَ عنِ الانْجِرَارِ إلَى مَعْصِيَةِ اللهِ لأَجْلِ المصيبةِ أَوِ الاعتِرَاضِ عليهِ تعالَى والعياذُ باللهِ عندَ المصيبةِ واصْبِرْ علَى أَداءِ الوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّماتِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْكَ.

فيَا أَخِي المؤمنَ إِنْ ضَاقَ صَدْرُكَ بِالبَلاء .. إِنْ ضَاقَ صَدْرُكَ بِمُصيبَةٍ اذْهَبْ إلَى المقَابِرِ وَزُرْ ءَاباءَكَ وَأَهْلَكَ وَإِخْوَانَكَ وَاعْلَمْ أَنَّكَ إلَى هذَا صائِر، واعْلَمْ أَنَّ الدُّنيا لَوْ كانَتْ تُساوِي عندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى الكافرَ منها شربةَ ماءٍ، فالدنيا سِجْنُ المؤمِنِ وجنَّةُ الكافِرِ فَمُتْ مُسْلِمًا وَلا تُبَالِ

إِذَا أَبْقَتِ الدُّنيا علَى المرءِ دِينَه         فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ

أخِي المؤمنَ مَا أَكَلْتَهُ تُفْنِيهِ ومَا لَبِسْتَهُ تُبْلِيهِ وَمَا عَمِلْتَهُ تُلاقِيه، وَالموتُ أَمْرٌ مَقْضِيٌّ وفِرَاقُ الأَحِبَّةِ وَعْدٌ مَأْتِيٌّ وَالدُّنيا أَوَّلُها ضَعْفٌ وَفُتُورٌ وَءَاخِرُها موتٌ وقُبورٌ فَتَوَكَّلْ علَى اللهِ وَفَوِّضْ أَمْرَكَ إلَى اللهِ واصبِرْ علَى مَا ابْتَلاكَ اللهُ بهِ وإيَّاكَ والاعتِرَاضَ علَى اللهِ وقُلْ يَا الله. هذا وأستغفرُ الله.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ المؤمِنينَ وءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلفاءِ الرَّاشدِينَ أبِي بكرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أبِي حنيفَةَ ومَالِكٍ والشافِعِيِّ وأحمَدَ وعنِ الأولياءِ والصَّالحينَ أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه.

اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ، اللهمَّ إنا نعوذُ بِكَ منَ البرصِ والجنونِ والجُذَامِ وسَىِّءِ الأسقامِ، اللهمَّ يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قُلوبَنا علَى دِينِك، ربَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ، اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة الطلاق/2ـ3.

[2] سورة الأنبياء/23.

[3] سورة البقرة/155ـ 156.

[4]سورة البلد/4.