إخوةَ الإيمانِ بيَّنَ ربُّنا تباركَ وتعالى أنَّ القرءانَ فيهِ ءَاياتٌ مُحْكَمَاتٌ وفيهِ ءاياتٌ مُتَشابِهات، فأَمّا المحكماتُ فهِيَ التِي دِلالَتُها علَى الْمُرادِ وَاضِحَةٌ فَلا تَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغةِ إِلَّا وَجْهًا واحِدًا أى معنًى واحِدًا كقولِه تعالَى ﴿وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ ٤﴾[2] وقولِه تعالى ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡء﴾[3] وقَدْ سَمَّى اللهُ تباركَ وتعالَى الآياتِ الْمُحْكَمَاتِ بِأُمِّ الكِتابِ أَيْ أُمِّ القُرْءَانِ لأنَّها الأَصْلُ الذِي تُرَدُّ إليهِ الآياتُ الْمُتَشَابِهَاتُ، وأغلَبُ ءاياتِ القُرءَانِ مُحْكَمَة.
وأمّا الآياتُ الْمُتَشَابِهةُ فَهِيَ التِي لَمْ تَتَّضِحْ دِلالتُها أَيْ أَنَّ دِلالتَها علَى الْمُرادِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ وتَحْتَمِلُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ العَربيّةِ أَوْجُهًا أَيْ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَيُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ المعنَى الْمُرَادِ مِنْهَا إلَى نَظَرِ أَهْلِ النَّظَرِ وَالفَهْمِ الذِينَ لَهُمْ دِرَايَةٌ بِالنُّصوصِ ومعانِيهَا ولَهُمْ دِرَايَةٌ بِلُغَةِ العَرَبِ فَلا تَخْفَى علَيْهِمُ الْمَعَانِي إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ القرءانَ أَنْ يُفَسِّرَهُ، وَمِثَالُ ذلكَ قولُهُ تعالَى ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ ٥﴾[4] فَإِنَّ كلمةَ (ٱسۡتَوَىٰ) في لُغَةِ العَرَبِ تَحْتَمِلُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى فَاحْتِيجَ إلَى نَظَرِ العُلَمَاءِ لِمَعْرِفَةِ المرادِ مِنْهَا فِي هذِهِ الآيَة. …
ومِنْ أصولِ عقائدِ المؤمنينَ التي دَلَّتْ عليهَا الأَدِلَّةُ والبراهينُ القاطعةُ مِنَ القُرْءَانِ والحدِيثِ والعَقْلِ والإِجماعِ تَنْزِيهُ اللهِ سبحانه وتعالى عنِ التَّحَيُّزِ في مَكَانٍ أوِ الانْتِشَارِ في الأَماكِن، فربُّنا سبحانَه وتعالى هو خالِقُ المكان، كانَ قبلَ الأماكِنِ كُلِّها مِنْ غيرِ احتِياجٍ إليهَا ثم خَلقَ الأماكِنَ وبعدَ خَلْقِهَا ما زالَ كمَا كانَ موجودًا بِلا مكانٍ لأنهُ سبحانَهُ يُغَيِّرُ ولا يَتَغَيَّرُ كما اشتَهَرَ ذلك بينَ عَوامِّ المسلمينَ وخَواصِّهِمْ إِذْ لَوْ جَازَ عليهِ التَّغَيُّرُ لَاحْتَاجَ إلى مَنْ يُغَيِّرُه والْمُحْتَاجُ إلى غيرِه لا يكونُ إِلها.
ثم المكانُ إخوةَ الإيمانِ هو الفراغُ الذِي يشغلُه الجِسْمُ، وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ هُوَ ما يأخُذُه الحَجْمُ مِنَ الفَراغ، فَلَو كانَ اللهُ في مَكانٍ لكانَ جسمًا لهُ طُولٌ وعَرْضٌ وعُمْقٌ كمَا أنَّ الشَّمْسَ لَها طولٌ وعرضٌ وعُمْقٌ وحَجْمٌ وشَكْلٌ ومن كانَ كذلكَ كانَ بِلا شَكٍّ مَخْلُوقًا مثلَ المخلوقينَ مُحتاجًا إلى مَنْ خَصَّهُ بذلكَ الطولِ وذلكَ العَرْضِ وذلكَ العُمْقِ، والاحتياجُ يُنافِي الألوهيةَ، فوجبَ عَقْلًا تنزيهُ اللهِ عَنِ المكانِ. هذا الدليلُ مِنَ العَقْلِ. …
إخوةَ الإيمانِ وَالإسلامِ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ بِتَوْفِيقِهِ أَنَّ اللهَ الذِي خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا النِّعَمَ الكَثِيرَةَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ فَلا يُجْحَدَ وَأَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى وَأَنْ يُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ ومَا زِلْنَا رَغْمَ البَلاءِ والغَلاءِ نَتَقَلَّبُ في نِعَمِ اللهِ الكَثِيرَةِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، قالَ تعالى ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآ﴾[1] وكُلُّ نِعْمَةٍ نَحْنُ فِيهَا مِنْ صِحًّةٍ وَعَافِيَةٍ في الدِّينِ والنَّفْسِ وَوَلَدٍ وَمَالٍ وَمَتَاعٍ هِيَ مِنَ اللهِ.
وَتَعْلَمُونَ أَيُّها الأَحِبَّةُ أنَّ الذَّنْبَ الوَحِيدَ الذي لا يَغْفِرُه اللهُ بِالْمَرَّةِ لِمَنْ مَاتَ عليهِ هو الكُفْرُ وَلِذلِكَ فَإِنَّنا كُنَّا وَمَا زِلْنَا وَلا نَزَالُ مَا عِشْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ نُحَذِّرُ مِنَ الكُفْرِ لَيْلَ نَهارَ شَفَقَةً علَى النَّاسِ، وَمَنْ عَابَ عَلَيْنَا ذلكَ فَالعَيْبُ فِيهِ فَنَحْنُ نُحَذِّرُ مِنَ الكُفْرِ نَلْتَمِسُ بذلكَ الأَجْرَ مِنَ اللهِ وَنَرْجُو أَنْ نَكُونَ مِنَ الفَائِزِينَ. …
عبادَ اللهِ أُوصِي نفسِي وأُوصيكم بِتَقْوَى اللهِ العليِّ العظيمِ والثَّباتِ على نهجِ رَسُولِه الكَريمِ وَخُلُقِ النَّبِيِّ الحَمِيدِ فَإِنَّ أحْسَنَ الكلامِ كَلامُ اللهِ وأحسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ أَيْ سِيرَةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَطُوبى لِمَنْ كانَ مِنْ عبادِ اللهِ الصَّابِرينَ علَى البَلاءِ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ وفي سَائِرِ الأَحْوَالِ لِأَنَّ اللهَ تعالى تَجِبُ طَاعَتُه في كُلِّ حَالٍ في كُلِّ أَوَانٍ وَلَمْحَةٍ وَنَفَسٍ، كمَا أَنَّنِي أُذَكِّرُ نفسِي وأُذَكِّرُكُمْ بِحديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي حَضَّنا فيهِ على التَّراحُمِ والتَّعاضُدِ وعلَى أَنْ يكونَ أحدُنا لِلْآخَرِ كَالبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ وكَالجَسَدِ الوَاحِدِ فقَالَ صلى الله عليه وسلم مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى[1] اهـ وقالَ صلى الله عليه وسلم مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ[2] اهـ فَارْحَمُوا بَعْضَكُمْ إخوةَ الإيمانِ وتَرَاحَمُوا فيمَا بَيْنَكُمْ. …