الحمدُ للهِ الواحدِ الأحد الفَرْدِ الصَّمَد والصلاةُ والسلامُ الأتَمَّانِ الأَكْمَلَان علَى الرسولِ الْمُصْطَفَى وَالنَّبِيِ الْمُجْتَبَى وَبعدُ فَمَرْحَبًا بكم جَميعا في هذا المسجدِ المبارك ومعَ جَمعيتِكُمُ المبارَكَة نَحْتَفِي بهذهِ المناسبَةِ الرَّاقِيَة.
فَهَا هِيَ ذِكْرَى الإسراءِ والمعراجِ تَلُوحُ أَعْلَامُها مِنْ جَدِيد، وَتَتَوَهَّجُ أَنْوَارُها الْمُشِعَّةُ الْمُنْبَعِثَةُ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيد، وَتَنْتَصِبُ مَعَانِيهَا الْمُتَوَارَثَةُ جِيلًا عَنْ جِيل وَتَتَرَاءَى عِبَرُهَا فِي مُخَيَّلَتِنَا في زَمَنِ القَهْرِ وَالاسْتِبْدَاد، وَتَسْتَحِثُّ عُقولَنا لِلتَّفَكُرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
معجزةُ الإسراءِ والمعراج إِحْدَى كُبْرَيَاتِ الدَّلائِلِ البَاهِرَة التِي أَيَّدَ اللهُ بها نَبِيَّهُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم في زَمَنٍ تَكَالَبَ فيهِ أَعْدَاءُ الإيمانِ والحقِ عليهِ صلى الله عليه وسلم وعلَى أَصْحَابِه، زمنٍ أَصَرَّ فيهِ عَبَدَةُ الطاغُوتِ علَى عِبَادَتِهم، وَتَمَسَّكُوا بِمَا وَرِثُوهُ عَنْ أَجْدَادِهِمْ مِنْ عادَاتٍ فَاسِدَةٍ وَتَقالِيدَ بَالِيَة. وَرَغْمَ كُلِ مَا رَأَوْهُ مِنَ المعجزاتِ البَاهِرَةِ الدَّالَّةِ على صِدْقِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمِنَ الصفاتِ الحميدةِ والأَخْلَاقِ الرَّفيعَةِ فيه إلَّا أَنَّ كُفْرَهُمْ أَعْمَى قُلُوبَهم وَحِقْدَهُمْ أَعْمَى أَبْصَارَهُم. وَجَاءَتْ مُعْجِزَةُ الإسراءِ والمعراج لِتُشَكّلَ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ التَّحَدّي، وَمَعْلَمًا مِنْ مَعَالِمِ الْمُواجَهَة بينَ نَقَاوَةِ الإِيمانِ وَصَفاءِ الهُدَى وَبَينَ ظُلْمَةِ الكُفْرِ وَظَلامِ الهَوى. إِلّا أَنَّ القَوْمَ مَضَوْا في تَعَنُّتِهِم وَتَجَبُّرِهِم حتّى وَلَوْ وَصَفَ لَهُمْ سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم المسجدَ الأَقْصَى الذِي يعرِفونَ أنَّهُ لَمْ يَزُرْهُ قَط رُكْنًا ركنًا.
وهنا يَبْرُزُ مَوْقِفٌ سَجَّلَهُ التاريخُ لِرَجُلٍ فَذٍ وصِدّيقٍ مُلْهَم، مَوْقِفٌ لَمْ يتَأَثَّرْ بِجُحُودِ الأَكْثَرِيَّةِ وَنُكْرَاها، بَلِ ازْدَادَ يَقِينًا بِحَقِيَّةِ هذَا الدِينِ وَصِدْقِ صَاحِبِ الرّسَالَة. فَقَدْ جاءَ المشركونَ إلى أبِي بكر فقالُوا هَلْ لَكَ إلَى صَاحِبِك يَزْعُمُ أنهُ أُسْرِيَ بهِ الليلَةَ إلى بيتِ المقدِس؟ قالَ أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ لَئِنْ كانَ قالَ ذلكَ لَقَدْ صَدَق قالُوا أَوَتُصَدّقُهُ أنهُ ذهبَ الليلةَ إلَى بيتِ المقدسِ وجاءَ قبلَ أَنْ يُصْبِحَ قالَ نعم، إِنِي لَأُصَدِقُهُ فيمَا هو أبعدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاء، فَلِذَلِكَ سُمِيَ الصِدّيقَ.
وكأَنّي بأبِي بَكْرٍ الصديقِ رضيَ الله عنه بِمَوْقِفِهِ الرَّائِدِ هذَا يُعَلِمُنَا نحنُ مُسْلِمِي القَرْنِ الوَاحِدِ وَالعِشْرِين كيفَ يَكُونُ التَّصْدِيقُ في زَمَنِ التَّشْكِيك، وكَيْفَ يَكُونُ الثَّباتُ عندَ الشَّدَائِدِ وَالْمُلِمّات، وَمِنْ خِلالِ مَرْتَبَةِ الصِدّيقِيَّةِ التي حازَها ومُمارَسَاتِه الْمُمَيَّزَةِ كَصَحَابِيٍ عَظِيم وَخَلِيفَةٍ رَاشِد بنَى لنَا مَدْرَسَةَ العِزَّةِ وَالكَرَامَة وَشَيَّدَ حِصْنَ الدِفاعِ عَنِ الإِيمانِ وَالْمُؤْمِنِين.
ذكرَى الإسراءِ والمعراج محطةٌ تاريخيةٌ يَنْبَغِي الوُقوفُ عندَها مَلِيَّا لِاسْتِخْرَاجِ العِبَرِ وَفَهْمِهَا لَا سِيَّمَا وأنّها تَمرُّ علينَا وَالأَسَى يُخَيِمُ علَى مُجْتَمَعَاتِنَا بِالمصائِبِ وَالنَّوائِب وَالاضْطِهَادِ وَالتَّهْجِير. لِذَلِكَ علينَا أَنْ نَقْتَبِسَ مِنْ هذهِ الذِكرَى لِئَلّا تَمُرُّ مُجَرَّدَ إِعلاناتٍ وَلَافِتَاتٍ وَاحْتِفَالَاتٍ وَحَسْب لِنَسْرِيَ بِهذِهِ الأمة مِنْ هَذَا الليلِ البَهيم الذِي يَلُفُّ الأُمَّة إلَى مَعَالِمِ الهِدَايَةِ والرَّشاد، وَأَنْ نَعْرُجَ بِأُمَّتِنَا مِنْ هذَا الحَضِيضِ الْمُتَدَنِي إلى الآفَاقِ الْمُتَلَأْلِأَةِ بِالعِلْمِ النَّافِع والْمَوْقِفِ السَّدِيد وَالرَّأْيِ الرَّشِيد والمنهجِ الْمُعْتَدِل بعيدًا عَنِ التَّطَرُّفِ الذِي يُؤَدِي إلَى الفَوْضَى والمزِيدِ مِنَ الضَّعْفِ وَزَرْعِ الفِتَن فإِنَّ المسلمينَ هُمْ الْمُتَضَرّرُونَ الأوائلُ مِن هذا التطرفِ وأهلِه.
وَمِنْ غَيْرِ المقبولِ تَحْمِيلُ الإسلامِ كَدِين أو تحميلُ المسلمينَ كَأُمَّة تَبِعَاتِ وَنَتَائِجَ مَا تَقُومُ مُنَظَّمَاتٌ مُتَطَرِفَة، وَعُمُومُ المسلمينَ اليَوْمَ في مَشارِقِ الأَرْضِ ومغاربِها هُم أَتْبَاعُ الْمَدْرَسَةِ الأَشْعَرِيَّة والمدرسَةِ الماتُريدِيَّة وليسُوا مُؤَيِدِينَ لِلْفِكْرِ الْمُتَطَرِفِ البَغِيض. وَمَا يَقُومُ بهِ البَعضُ إِعْلامِيًّا مِنْ لَصْقِ اسْمِ السَّلَفِ بِالجَرَائِمِ التِي تُرْتَكَبُ فِي نَواٍح عِدَّةٍ مِنَ البِلَاد مَا هُوَ إِلّا مَحَاوَلَةٌ لِإِظْهَارِ أُمَّتِنَا كَمَا يدَّعون أَنَّها أُمَّةٌ رَجْعِيَّة ذَاتُ تَارِيخٍ مُظْلِمٍ وَحَاضِرٍ أَسْوَد. الإسلامُ حَمَلَ لِلنَّاسِ النُّورَ والوَسَطِيَّةَ وَالاعْتِدَال، ومَلَأَ الأرضَ قِسْطًا وَعَدْلًا وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ كانُوا علَى المحَجَّةِ البَيْضَاء والأمرُ نَفْسُهُ يَنْطَبِقُ علَى الخَلَفِ الذِينَ جَاؤُوا بعدَ السَّلَف، وَمِنْهُمُ الصالِحونَ والعُلَمَاءُ العَامِلُون الذينَ جَدُّوا فِي نَقْلِ تعاليمِ الإسلامِ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيف، بِالسَّنَدِ الْمُتَّصِلِ إلى سَلَفِنَا الصّالِح.
أَيُّهَا الأَحِبَّة، في كُلِ عَامٍ تَحْتَفِلُ جَمْعِيَّتُنا بِذِكْرَى الإسراءِ والمعراجِ لإظهارِ الدُّروسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهَا وَلِلتَّحْذِيرِ مِنْ دَسَائِسَ انْتَشَرَتْ بينَ النَّاسِ فِي مَا يَتَعَلَّقُ بالمناسبةِ مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَشبِيهَ اللهِ بِخَلْقِهِ وَالعياذُ بِاللهِ وتَكْذِيبَ مَا جَاءَ فِي كتابِ اللهِ وحَديثِ رَسُولِ اللهِ الثَّابِتِ. إِنَّ دَعْوَتَنَا إلَى نَبْذِ هذهِ الْمُنْكَرَاتِ ما هِيَ إِلا خِدْمَةٌ للدّينِ فَالسَّاكِتُ عَنِ الحقِ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ مُسْتَرْشِدِينَ فِي ذلكَ بِتَوجِيهاتِ الشَّيخِ عَبْدِ اللهِ الهررِيِ رَحْمَةُ اللهِ عليهِ الذِي كَانَ عَلَمًا فِي الدّفاعِ عَنِ الحقِ ومُحَارَبَةِ البَاطِل… وَإِنَّنَا نَحْمَدُ اللهَ أَنْ وَفَّقَنَا لِلدَّعْوَةِ إلَى الدّينِ الصَّحيحِ بأَدِلَّةٍ وَبَرَاهِينَ وَحُجَجٍ دَامِغَاتٍ وَاضِحَاتٍ مُشْرِقَاتٍ بِنُورِ البَيَانِ الفَصْلِ دُونَ لَبْسٍ أَوْ نَقْصٍ.
إِنَّنا نَحْتَفِلُ بذِكْرَى الإسراءِ والمعراجِ لِنَكُونَ مَعًا في عَمَلِ الْخَيْرِ، نَسْتَشْعِرُ معنَى الاقتِدَاءِ برَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِنُؤَكِدَ مِنْ جَدِيدٍ انْتَمَاءَنا لِهذَا النَّبِيِ الكَريمِ وعلَى العَقيدَةِ التِي جَاءَ بِها، فَاحْرِصُوا فِي ذِكرَى الإسراءِ والمعراجِ، وفِي كُلِ يَومٍ تُشْرِقُ الشمسُ علَيْنَا، أنْ تَكونُوا أَتْبَاعًا حَقِيقِيِينَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،وخُصُوصًا في مَسائِلِ العَقِيدَة، عقيدَةُ الرَّسولِ أَمَانَة، في قُلوبِكُمْ أَمانَة، أمانَةٌ لِتُعَلِمُوها الناسَ، عقيدَةٌ لِتَحْمِلُوهَا طُولَ الدُّروبِ، فَعَلِمُوهَا مَنْ حَوْلَكُمْ، وأَوْصِلُوهَا إلَى قُلوبِ الناسِ يا عبادَ اللهِ، احمِلُوهَا بِهِمَّةٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَحْمِلُونَ أَغْلَى مَا عِنْدَكُم، وأَوْصِلُوهَا إلَى ءاذَانِ الناسِ وإلَى قُلوبِهم، أَوْصِلُوهَا إلَى ءَاذَانِ الناسِ بِالكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، لِتَخْرِقَ بعدَ ذلكَ إلَى القُلوب، أوصِلُوها بِالأُسْلُوبِ الحسنِ، بِالموعِظَةِ الحسنَةِ بالرِفقِ الذِي كانَ عليهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمَحَبَّةِ أَدَاءِ الخيرِ لِلْغَيْرِ، كمَا فَعَلَ ذَلِكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وفي الختامِ نَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُكْرِمَنَا بِحُسْنِ الخِتامِ وَنَيْلِ البَرَكاتِ والفُيوضَاتِ والأَمْدَادِ مِنْ سَيِدِ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعينَ سَيِدِي وَحبِيبِي رَسُولِ اللهِ محمدٍ طهَ الأَمينِ عليهِ أَفْضَلُ الصَّلاةُ وأَتَمُّ التَّسلِيم.
جَمَعَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ فِي مُنَاسَبَاتِ الخيرِ، أَحْسَنَ اللهُ إليكُمْ، وَكُل عامٍ وأَنْتُمْ بخيرٍ، والسلام عليكم ورحمة الله.
السبت 16/5/2015