عُمرُ بنُ الخطَّابِ ثَاني الخلفَاءِ الرَّاشِدِين

إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ولا مثيلَ له ولا ضدَّ ولا ندَّ له، وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرةَ أعينِنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلى الله وسلم عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
هو أبو حفصٍ عمرُ بنُ الخطابِ بنُ نفيل القرشيُّ، الخليفةُ الراشدُ الذي عدلَ في رعيَّتِه فنامَ قريرَ العينِ، أحدُ السابقينَ الأولينَ منَ المهاجرينَ وأحدُ العشرةِ الذين بشرهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنةِ. وأحدُ أصهارِ رسولِ اللهِ وأحدُ كبارِ علماءِ الصحابةِ، الذينَ لم تأخُذْهم في اللهِ لومةُ لائِمٍ، وفي هذا يقولُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم مُبينًا مزايَا عمرَ ومناقبَه: “الحقُّ يجرِي على لسانِ عمرَ وقلبِه” لقبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالفاروقِ لأنه يفرقُ بينَ الحقِّ والباطل. أسلمَ رضي اللهُ عنه في السنةِ الثالثةِ من البعثةِ ولهُ حينئذٍ ستٌّ وعشرونَ سنةً، وذلكَ بعدَ أربعينَ رجلاً وعشرِ نسوةٍ.


كان طويلاً أصلعَ انحسرَ الشعرُ عن جانبِي رأسِه، شديدَ البياضِ تعلوهُ حمرةٌ، كثَّ اللحيةِ خفيفَ شعرِ العارِضَيْنِ، كثيرَ التواضُعِ، زاهدًا ورِعًا. وقالَ وهبُ بنُ مُنبِّه: جاءَت صفةُ عمرَ في التوراةِ: أنهُ قرنٌ من حديدٍ، أميرٌ شديدٌ. ومن فضائِلِ الفاروقِ عمرَ أنهُ عمّرَ مسجدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والمسجدَ الأقصَى، وفي سنةِ سبعةَ عشرَ توجَّه أميرُ المؤمنينَ مُعتمِرًا وأقامَ بمكةَ عشرينَ يومًا وفيهَا وسَّعَ المسجدَ الحرامَ. وفي هذه السنةِ تزوَّجَ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطابِ بأمِّ كلثوم بنتِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه. وفي سنةِ ثمان عشرة حصلَ قحطٌ شديدٌ سُمِيَّ ذلك العامُ عامَ الرمادةِ فاسْتَسْقَى عمرُ رضي الله عنه، وخطبَ وأخذَ العباسَ بنَ عبدِ المطلبِ وتوسَّلَ به وجثَا على ركبتَيهِ وبكَى يدعُو إلى أن نزلَ المطرُ وأُغيثُوا. وهو الذي جمعَ الناسَ إلى صلاةِ التراويحِ، وأولُ من تسمَّى بأميرِ المؤمنينَ رضيَ الله عنه.
وقد أُثِرَ عن سيدِنا عمرَ الفاروقِ رضي الله عنه الكثيرُ من المواعظِ فعن ثابتِ بنِ الحجاجِ قالَ: قالَ عمرُ: “حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أنفسَكم قبلَ أن تُوزنُوا، أهونُ عليكم في الحسابِ غدًا أن تحاسِبوا أنفسَكمُ اليومَ، وتزيَّنوا للعرضِ الأكبرِ ﴿يومئذٍ تُعرَضونَ لا تخفَى منكم خافية﴾ سورةُ الحاقة /18 .
إخوة الإيمان، اشتهرَ عنِ الفاروقِ رضي الله عنه عدلُه واهتمامُه بأمورِ المسلمينَ قبلَ أن يُبايعَ له بالخلافةِ وبعدَ ذلكَ، فمن تلكَ الأخبارِ أن تجارًا نزلوا المصلى، فقالَ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ لعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ: هل لك أن تحرسَهمُ الليلةَ منَ السَّارِقِينَ، فسهَرَا يحرسانِ البضاعةَ، فسمعَ عمرُ بكاءَ صبيٍّ فتوجّهُ نحوَ أمِّه فقالَ لَها: اتَّقِي اللهَ وأحسنِي إلى صبِيِّكِ، ثم عادَ إلى مكانِه فسمعَ بكاءَه فعادَ إلى أمِّه فقالَ لها مثلَ ذلك، فلما كانَ ءاخرُ الليلِ سمعَ بكاءَه فقالَ لأمِّه: مالِي أرى ابنَك لا يقَرُّ الليلةَ، فقالت: يا عبدَ اللهِ، إنِي أريدُ أن أفطمُه وهو يأبَى، فقالَ: ولِمَ، قالت: لأن عمرَ لا يفرضُ (أي يعطي) إلا للفطمِ، فقالَ: وكم لهُ، قالت: كذا وكذا شهرًا، فقالَ: ويحكِ لا تعجليهِ، فصلَّى الفجرَ وقد غلبَه البكاءُ، فلما سلَّمَ قالَ: يا بؤسًا لعمرَ كم قتلَ من أولادِ المسلمين، ثم أمرَ مُناديًا فنادَى أن لا تعجلوا صبيانَكم عنِ الفِطامِ فإنا نفرضُ لكلِّ مولودٍ في الإسلامِ، وكتبَ بذلكَ إلى الآفاقِ.
ومن أخبارِ رحمتِه وعطفِه على المسلمينَ أنهُ في يومٍ من أيامِ الرَّمادة، وهي السنةُ التي كان فيها قحطٌ شديدٌ، نحرُوا جَزورًا ووزَّعوها على الناسِ، وكانوا قد ادَّخروا له أطيبَ ما فيها دونَ أن يعلمَ، فلما قُدِّمَت له قال: أنّى هذا؟ فقالوا: يا أميرَ المؤمنينَ، من الجزورِ التي نحَرْنا اليومَ، فقالَ: بئسَ الوالِي أنا إن أكلتُ أطيبَها وأطعمتُ الناسَ كراديسَها، فأمرَ بخبزٍ وزيتٍ فجعلَ بيدِه يكسرُ الخبزَ ويثردُه، ثم قالَ لخادِمه، وكانَ اسمُه يرفأ: ويحكَ يا يرفأ، ارفَعْ هذه الجفنةَ حتى تأتِيَ أهلَ بيتٍ بثمغ (وهو موضعٌ قربَ المدينةِ المنورة) فإِنّي لم ءاتِهم منذُ ثلاثةِ أيامٍ، وأحسبُهم مُقفِرِين، فضَعْها بينَ أيديهِم.
كان شديدَ التواضُعِ، رحيمًا رؤوفًا يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوفِ فقد روى أبو نعيم في “حليةِ الأولياءِ” أن سيدَنا عمرَ رضي الله عنه خرجَ في سوادِ الليلِ فرءاهُ طلحةُ، فدخل عمرُ بيتًا ثم دخلَ بيتًا ءاخر، فلما أصبحَ طلحةُ ذهبَ إلى ذلك البيتِ فإذا عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ، فقالَ لها: ما بالُ هذا الرجلِ يأتيكِ، فقالت إنه يتعاهدُني منذ كذا وكذا، يأتينِي بما يصلِحُنِي ويخرجُ عنِّي الأذى، فقالَ طلحةُ: ثكلتكَ أمُّكَ يا طلحة، أتتبعُ عثراتِ عُمر.
وفي سنة ثلاثٍ وعشرينَ حجَّ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه ثم رجعَ إلى المدينةِ المنورةِ وفي ختامِها توفي رضي الله عنه. ففي صبيحةِ السابعِ والعشرينَ من ذي الحجةِ كانَ عمرُ رضي اللهُ عنه خرجَ لصلاةِ الصبحِ وقد استوتِ الصفوفُ فدخل أبو لؤلؤةَ بينَ الصفوفِ وبيدِه خنجرٌ مسمومٌ برأسينِ فضربََه بهِ ثلاثَ طعَناتٍ إحداها تحتَ سرّته وأصيبَ منَ الصحابةِ نحوُ اثنَي عشرَ رجلاً ماتَ منهم ستةٌ ولما علمَ أنهُ لا مهربَ له طعنَ نفسَه فماتَ. وقبل أن تفيضَ نفسُه طلبَ الفاروقُ رضي اللهُ عنه منَ ابنِه عبدِ اللهِ أن يُحصِيَ ما عليهِ من الدينِ وأن يُؤدِّيَهُ لأصحابِه، وقالَ لهُ: اذهَبْ إلى عائشةَ قل لها: يستأذِنُ عمرُ بنُ الخطابِ أن يُدفَنَ معَ صاحِبَيْه، فمَضى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ فاستأذَنَ فقالت له: كنتُ أريدُه لنفسِي ولأُوثرَنَّهُ اليومَ على نفسِي. فدُفِنَ قربَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبِي بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه.
جزاكَ اللهُ يا سيدي الفاروقُ عن أمةِ محمدٍ خيرًا وجمعنا بك في جناتِ النعيم.