الحمدُ للهِ الذِي خلقَ الخلقَ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ ومِنْهُمْ سعيدٌ ومِنْهُمْ قبيحٌ ومِنْهُمْ حَسَنٌ، سبحانَهُ لا يُعْتَرَضُ عليهِ وَلا يُلامُ ولا يُسأَلُ عمَّا يَفعلُ بِالأَنامِ، لا شريكَ لَهُ ولا مثيلَ لهُ ولا شبيهَ لهُ، لا يُشْبِهُ خلقَهُ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ ﴿لَيسَ كَمِثلِهِۦ شَيء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ١١﴾[1]. وصلّى اللهُ على سيدِنا محمَّدٍ مَا هَبَّتِ النَّسائِمُ وَما نَاحَتْ على الأَيْكِ الحمَائم.
أَمَّا بعدُ فأُوصِي نَفْسِي وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ. أَنْزَلَ رَبُّنا سبحانَهُ علَى قلبِ حبيبِه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم سورةً مِنْ سُوَرِ القُرءانِ الكَريمِ هيَ سورةُ النَّصْرِ، ثلاثُ ءاياتٍ وهيَ مدنيةٌ نزَلَتْ علَى الحبيبِ المصطفَى وهو في المدينَةِ يقولُ اللهُ تبارَكَ وتعالَى ﴿إِذَا جَاءَ نَصرُ ٱللَّهِ وَٱلفَتحُ ١ وَرَأَيتَ ٱلنَّاسَ يَدخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفوَاجا ٢ فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَٱستَغفِرهُ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَا ٣﴾[2] وَتُسَمَّى هذهِ السورةُ سورةَ التَّوديعِ وَهِيَ ءاخِرُ سورةٍ نزَلَتْ جَمِيعًا قالَهُ ابنُ عباسٍ كمَا في صحيحِ مُسلِم. ﴿إِذَا جَاءَ نَصرُ ٱللَّهِ وَٱلفَتحُ ١﴾ النَّصرُ العَوْنُ وأمَّا الفَتْحُ فهُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، لَمَّا فتحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مكَّةَ قالَتِ العَرَبُ أمَّا إذَا ظَفِرَ محمّدٌ بأهلِ الحرَمِ وقَدْ أجارَهَمُ اللهُ مِنْ أَصْحابِ الفِيلِ فليسَ لَكُمْ بهِ يَدَان أي طاقَةٌ فَدَخلوا في دِينِ اللهِ أفواجًا، وذلكَ قولُه تعالَى ﴿وَرَأَيتَ ٱلنَّاسَ يَدخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفوَاجا ٢﴾ أي جماعاتٍ كثيرةً فوجًا بعدَ فَوْجٍ بعدَما كانُوا يدخُلونَ في الإِسلامِ واحدًا واحدًا أَوِ اثْنَيْنِ اثنينِ.
وقد روَى أحمدُ في مُسندِهِ وعبدُ الرَّزَّاقِ في تفسيرِه عن أبِي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ لَمَّا نَزَلَتْ ﴿إِذَا جَاءَ نَصرُ ٱللَّهِ وَٱلفَتحُ ١﴾ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ أتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وأَلْيَنُ قُلوبًا، الإِيمانُ يَمَانٍ والحكمَةُ يَمَانِية اﻫ وهُوَ عندَ البُخارِيِّ ومُسْلِم. أمّا قولُه تعالى ﴿فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ﴾ ففِيهِ قَولانِ أحدُهما الصلاةُ قالَهُ ابنُ عَبّاسٍ، وَالآخَرُ التَّسبيحُ المعرُوفُ قالَهُ جَماعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرينَ، وقولُه تعالى ﴿وَٱستَغفِرهُ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَا ٣﴾ أَيْ دُمْ علَى الاستِغْفَارِ إنهُ كانَ وَلَمْ يَزَلْ تَوَّابًا كثيرَ القَبولِ لِلتَّوبَةِ. رَوَى البُخَارِيُّ عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالَتْ ما صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاةً بعدَ أن نزلَتْ عليهِ إذَا جاءَ نصرُ اللهِ والفَتْحُ إِلا يقولُ فيهَا سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهمَّ اغْفِرْ لِي اﻫ إخوةَ الإيمانِ إنَّ في ءاياتِ القرءانِ الكريمِ وسيرةِ نبيِّ اللهِ العظيمِ لَدُرُوسًا وعِبَرًا فَكُلُّنا يَعْلَمُ شدَّةَ مَا قَاسَاهُ النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ وأصحابُه في أَوَّلِ البِعْثَةِ مِنَ المشاقّ والإِيذاءِ والنَّصَبِ في نَشْرِ دِينِ الحقِّ ثمّ جاءَ الفرَجُ بعدَ الصبرِ فَلا ينبَغِي لِلْواحِدِ منَّا أَنْ تَثْنِيَهُ المصاعِبُ والمشَاقُّ عَنِ الثَّباتِ والْمُضِيِّ قُدُمًا في نَشْرِ عَقيدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. اللهمَّ ثبِّتْنَا علَى الحقِّ ونُصْرَتِهِ وَسَخِّرْنا لِخِدْمَةِ دينِكَ واغفِرْ لنَا ذُنوبَنا وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا. هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم.
الخطبة الثانية
إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أما بعدُ عبادَ اللهِ فَإِنِّي أوصيكم ونفسي بتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَديرِ. اللهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفِرِ اللهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسنَةٌ وفي الآخِرَةِ حسنةٌ وقِنا عذابَ النارِ اللهُمَّ اجعلْنا هُداةٌ مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّف. عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.
[1] سورة الشورى/11.
[2] سورة النصر/1ـ3.