أبُو بَكْر الصِّدِّيق أَولُ الخلَفَاءِ الرَّاشِدِين

إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ولا مثيلَ له ولا ضدَّ ولا ندَّ له، وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرةَ أعينِنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلى الله وسلم عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
هو أبو بكرٍ الصديقُ معدِنُ الهدى والتصديقِ واسمُه عبدُ اللهِ بنُ أبي قُحافةَ القُرَشي، ولدَ بعد الفيلِ بنحوِ ثلاثِ سنينَ وكانَ من رؤساءِ قريشٍ وعلمائِهم مُحَبَّبًا فيهم زاهِدًا خاشعًا حليمًا وَقُورًا مِقدامًا شُجاعًا صابرًا بَرًّا كريمًا رؤوفًا رحيمًا. كانَ أبيضَ اللونِ نحيفَ الجسمِ خفيفَ العارضينِ ناتئَ الجبهةِ أجودَ الصحابةِ، أولَ من أسلمَ من الرجالِ وعمرُه سبعٌ وثلاثونَ سنةً عاشَ في الإسلامِ ستًّا وعشرينَ سنةً. وذكرَ محمدُ بنُ إسحاقَ أنهُ أسلمَ على يدِه منَ العَشَرةِ المُبشِّرينَ بالجنةِ خمسةٌ وهم عثمانُ بنُ عفان، وطلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ، والزبيرُ بنُ العوَّامِ، وسعدُ بنُ أبِي وقاص، وعبدُ الرحمنِ بنُ عوف رضي الله عنهم.


وقد وردَ في قصةِ إسلامِه أنهُ رأى يومًا في منامِه وهو في الشامِ أن الشمسَ والقمرَ نزلا في حِجْرِه فأخذَهما بيدِه وضمَّهُما وأسبَلَ عليهما رداءَه، ثم انتَبه من نومِه فذهبَ إلى راهبٍ يسألُه عنِ الرؤيا. فقالَ له الراهبُ من أينَ أنتَ، قالَ مِن مكةَ، فقالَ وما شأنُك، قالَ التجارةُ، فقالَ لهُ الراهبُ: يخرُجُ في زمانِك رجلٌ يقالُ له محمدٌ الأمينُ تتبعُه ويكونُ من قبيلةِ بنِي هاشمٍ وهو نبيُّ ءاخرِ الزمان، وأنت تدخُلُ في دينِه وتكونُ وزيرَه وخليفتَه من بعدِه قد وجدتُ نعتَه وصِفَتَه في التوراةِ والزبور. فلما سمعَ سيدُنا أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه صفةَ النبيِّ ونعتَه صلى الله عليه وسلم رَقَّ قلبُه واشتاقَ إلى رؤيتِه. وما لَبِثَ أبو بكرٍ رضي الله عنه أن رأَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأسلمَ فكانَ أولَ من أسلمَ من الرجالِ. بُويعَ له بالخلافةِ يومَ وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السنةِ الحاديةَ عشرةَ من الهجرةِ وأجمعَ الصحابةُ كلُّهم على خلافتِه. ومن مناقبِه رضي الله عنه أنهُ بعد أن ماتَ منَ الصحابةِ نحوُ سبعِمائةِ رجلٍ أكثرُهم منَ القُرَّاءِ جمعَ القرءانَ وهو أولُ من سماهُ مصحفًا وقبلَ ذلكَ لم يكُن مجموعًا بل كان محفوظًا في صدورِ القراءِ منَ الصحابةِ ومكتوبًا في صحفٍ مُطهَّرةٍ متفرقةٍ.
وأما عن فضائلِ هذا ا لرجلِ العظيمِ فنذكرُ مَا وردَ عنْ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ الله عنه قالَ: أمرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّقَ ووافقَ ذلك مالا عندِي فقلُت اليومَ أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبَقْتُه يومًا قالَ فجئتُ بنصفِ مالي، فقالَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم “ما أبقيتَ لأهلِك“، قلتُ: مثلَه. وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده قالَ له رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: “ما أبقيتَ لأهلِك“، قالَ: أبقيتُ لهمُ اللهَ ورسولَه. فقلتُ: لا أسابِقُك إلى شىءٍ أبدًا”. أخرجَه الترمذيُّ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “ما نفعنِي مالٌ قطّ ما نفعَني مالُ أبي بكرٍ” فبكى أبو بكرٍ وقالَ: هل أنا ومالِي إلا لكَ يا رسولَ اللهِ. أخرجَه أحمدُ. وعن الزُّهريِّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لحسان: “هل قلتَ في أبِي بكرٍ شيئًا“، فقال نعم، فقالَ: “قُل وأنا أسمعُ“، فقالَ:
وثانِيَ اثنينِ في الغارِ المُنيفِ وقـد طافَ العدوُّ به إذ أصعدَ الجبلا
وكـــــانَ حِبَّ رسولِ اللهِ قد علموا منَ البَرِيَّةِ لـم يعـــدِلْ بهِ رجــلا
فضحكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بدَتْ نَواجِذُه، ثم قالَ: “صدقتَ يا حسان هو كما قُلت“.
وذكرَ أهلُ العلمِ والتواريخِ والسيرِ أن أبا بكرٍ كانَ يملِكُ يومَ أسلمَ أربعينَ ألفَ درهمٍ فكانَ يعتقُ منها ويُقوِّى المسلمينَ. كان سيدُنا أبو بكر ضي الله عنه من أثبتِ الناسِ قلبًا وأكثرِهم تواضُعًا. وقد وردَ عن هشامِ بنِ عُروةَ عن أبيهِ قالَ: لمّا وُلِّيَ أبو بكرٍ خطبَ الناسَ فحَمِدَ اللهَ وأثنَى عليهِ بما هو أهلُه ثم قالَ: “أما بعدُ أيها الناسُ قد وُلِّيتُ أمرَكم ولستُ بخيرِكم، ولكنَّ اللهَ أنزلَ القرءانَ، وسنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم السُّنَنَ فعلَّمَنا، اعلموا أنَّ أَكيسَ الكَيْسِ التقوى، وأنَّ أحمقَ الحُمْقِ الفجور. إن أقواكم عنديَ الضعيفُ حتى ءاخذَ له بحقِّه، وإن أضعفَكم عنديَ القويُّ حتى ءاخذَ منهُ الحقَّ، أيها الناسُ إنما أنا مُتَّبِعٌ ولستُ بمُبتدِعٍ فإِنْ أحسنتُ فأعينُونِي وإن زُغتُ فقوِّمُونِي”.
ومن فضائلِ أبي بكرٍ أيضًا أنهُ استخلفَ سيدَنا عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه فقد أخرجَ ابنُ عساكرَ عن يسارِ بنِ حمزةَ قالَ: لما ثقلَ أبو بكرٍ أشرفَ على الناسِ من كوةٍ فقالَ: أيها الناسُ إنِّي قد عهدتُ عَهْدًا أفترضونَ به، فقالَ الناسُ: رضِينا يا خليفةَ رسولِ اللهِ، فقامَ عليٌّ فقالَ: لا نرضَى إلا أَنْ يكونَ عمر، قالَ: فإنَّه عمر.
مرِضَ رضي اللهُ عنه ثم تُوفِّي عن ثلاثٍ وستينَ سنةً. ودُفِنَ في بيتِ عائشةَ ورأسُه عندَ كَتِفَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وارتجَّتِ المدينةُ بالبكاءِ ودُهِشَ القومُ. ولمّا تُوفِّي جاءَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ كرّمَ اللهُ وجهَه باكيًا مُسرِعًا مُسترجِعًا حتى وقفَ بالبابِ وقالَ: يرحمُك اللهُ أبا بكرٍ لقد كنتَ واللهِ أولَ القومِ إسلامًا، صدَّقتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ كذّبَه الناسُ وواسَيْتَهُ حينَ بَخِلوا، وقُمتَ معهُ حينَ قعدُوا، وسمَّاكَ اللهُ في كتابِه صِدِّيقًا فقال: ﴿والذي جاءَ بالصِّدقِ وصدَّقَ بهِ﴾ سورة الزمر/33.
قالُ أهلُ السِّيرِ تُوفِّي أبو بكرٍ ليلةَ الثلاثاءِ بينَ المغربِ والعشاءِ لثمانِ ليالٍ بقينَ من جمادى الآخرةِ سنةَ ثلاثَ عشر منَ الهجرةِ، وقد أوصَى أن تغسلَه زوجتُه وأن يُدفَنَ إلى جانبِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وصلَّى عليهِ عمرُ بينَ القبرِ والمنبرِ ونزلَ في حفرتِه ابنُه عبدُ الرحمنِ وعمرُ وعثمانُ وطلحةُ بنُ عبيدِ الله.
اللهمَّ احشُرْنا في زمرةِ الصدِّيقينَ وأمِتْنا على محبَّتِهم.