بيان أن الشفاعة حق لأهل الكبائر من المسلمين

الحمدُ للهِ الَّذِي رَفَعَ مَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا بِالعِلْمِ والإِيمانِ وَخَذَلَ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الهُدَى وَعَرَّضَهُمْ لِكُلِّ هَوَانٍ. وأَشْهَدُ أن لا إله إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الكَريمُ الْمَنَّانُ، سبحانَه لا يَجْرِي عليهِ زَمَانٌ، وَلا يَحْوِيهِ مَكانٌ، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الذِي كَمَّلَ اللهُ لَهُ الفَضَائِلَ والحُسْنَ وَالإِحْسَانَ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على سَيِّدِنا محمدٍ مَدَى الأَزْمَانِ، وعلى ءالِهِ الطَّيِّبِينَ والتَّابِعينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

أما بَعْدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَزِيزِ الغَفَّارِ والسَّيْرِ على نَهْجِ النبيِّ الْمُخْتَارِ والثَّباتِ على شَرْعِهِ إلى الْمَمَاتِ والعَمَلِ بِعَمَلِ الأَبْرَارِ.

أَخِي المؤمنَ اعْلَمْ أنَّ الشفاعةَ لُغَةً هِيَ طَلَبُ الخَيْرِ مِنَ الغَيْرِ لِلْغَيْرِ، وهيَ ثابِتَةٌ بِنَصِّ القُرْءَانِ والحَدِيثِ قالَ تعالى في سورةِ الأنبياءِ ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨﴾.

وَرَوَى ابنُ ماجَهْ عَنْ أبي مُوسَى الأشعريِّ رضي الله عنه قالَ قالَ رسولُ صلى الله عليه وسلم خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الجَنَّةَ فَاخْتَرْتُ الشَّفاعَةَ لأَنَّها أَعَمُّ وَأَكْفَى، أَتَرَوْنَها لِلْمُتَّقِينَ، لا، وَلكنَّها لِلْمُذْنِبِينَ الْخَطَّائِينَ الْمُتَلَوِّثِينَ[1] اهـ وقالَ الحافِظُ البُوصِيرِيُّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

قالَ الحافِظُ ابنُ حجَرٍ في الفَتْحِ مَا نَصُّهُ وقالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ وهَذَا مِنْ حُسْنِ تَصَرُّفِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُعَاءَهُ فِيمَا يَنْبَغِي، وَمِنْ كَثْرَةِ كَرَمِهِ؛ لِأَنَّهُ ءَاثَرَ أُمَّتَهُ على نَفْسِهِ، وَمِنْ صِحَّةِ نَظَرِه؛ لأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِمْ أَحْوَجَ إِلَيْهَا مِنَ الطَّائِعينَ اهـ

أَخِي المسلمَ الْمُحْتَاجُونَ لِلشَّفَاعَةِ هُمْ أَهْلُ الكَبَائِرِ فَقَطْ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي[2] اهـ مَعْنَاهُ هُمُ الذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ مِنْ أُمَّتِي أَي أُمَّةِ الإِجَابَةِ أَيِ المسلمينَ الذينَ ءامنُوا بِمَا جاءَ بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

أمَّا الأتقياءُ والأَولياءُ والشهداءُ فَلا حَاجَةَ لهم لِلشَّفَاعَةِ كما يُعْلَمُ مِنَ النُّصوصِ الصَّحِيحَةِ الوَاضِحَةِ.

النَّوْعُ الأَوَّلُ شَفَاعَةُ إِنْقَاذٍ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ كربِ الْمَوْقِفِ مِنْ أُمَّةِ النبيِّ ومِنْ أُمَمِ سَائِرِ الأنبياءِ وَهِيَ الشفاعَةُ العُظْمَى، فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الجَنَّةُ فَيَأْتُونَ ءادمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا … الحَدِيثَ، وهذِهِ الروايةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَةَ التِي جَاءَ فِيهَا يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ …[3] بِأَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْلِمُونَ الذينَ يَأْتُونَ الأَنْبِياءَ سَائِلِينَ شَفَاعَتَهُمْ.

والنوعُ الثاني مِنَ الشَّفاعَةِ هوَ الشفاعَةُ لِلْمُسْلِمينَ العُصَاةِ بعدَ دُخُولِهِمُ النَّارَ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ التِي يَسْتَحِقُّونَها، فقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّةِ محمدٍ مِنَ النارِ بِشَفَاعَةِ محمدٍ وَيَدْخُلُونَ الجنَّةَ اهـ[4]

أما النوعُ الثَّالثُ فَهُوَ الشفاعَةُ لِمَنِ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النارِ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمينَ بِذُنُوبِهِمْ فَيُنْقِذُهُمُ اللهُ مِنَ النَّارِ بِهذهِ الشَّفاعَةِ قَبْلَ دُخُولِها.

إخوةَ الإيمانِ أمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنينَ فَلا يَنَالُهُمْ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّفاعَاتِ، لا شفاعة الإنقاذِ مِمَّا يُصيبُ الناسَ مِنْ كُرَبِ الْمَوْقِفِ، ولا قَبْلَ دخولِهِمُ النارَ، وَلا تَخْفِيفِ عَذَابِ النَّارِ، قالَ تعالى ﴿وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ﴾ أَيْ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ماتَ على الإيمانِ.

ومما يَدُلُّ على أَنَّ الكُفَّارَ لا يُشْفَعُ لهم في الآخِرَةِ قولُه تَعالى ﴿فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَٰعَةُ ٱلشَّٰفِعِينَ ٤٨﴾[5]. قالَ ابنُ جُزَيٍّ في تَفْسِيرِهِ قوْلُه تعالى ﴿فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَٰعَةُ ٱلشَّٰفِعِينَ ٤٨﴾ إِنَّما ذلكَ لأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ أَنَّهُ لا يَشْفَعُ أَحَدٌ في الكُفَّارِ. والشَّفاعَةُ كما هو مَعْلُومٌ هِيَ طَلَبٌ لِلرَّحْمَةِ واللهُ تعالى أَخْبَرَنَا أَنَّ الكُفَّارَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ، وليسَ لهم إلّا زِيَادَةُ العَذَابِ كمَا قالَ تعالى ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا ٣٠﴾[6]، وكمَا أخبرَ سبحانَه عَنِ الكافرينَ أنهمْ يقولونَ يومَ القِيامةِ ﴿فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ ١٠٠ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيم ١٠١﴾[7] فإذَا كانَ الكُفَّارُ أَنْفُسُهُمْ يَنْفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكونَ لَهُمْ شُفَعَاءُ أَوْ أَنَّ أَحَدًا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ، فَلِمَاذَا يَتَنَطَّحُ بعضُ الناسِ اليَوْمِ مُكَذِّبًا كِتَابَ اللهِ لِادِّعاءِ أَنَّهُمْ يَنَالُونَ شفَاعَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.

فَتَبَيَّنَ لنَا أَنَّ الكافِرَ لا يَرْحَمُهُ اللهُ ولا أحدَ يَشْفَعُ لَهُ؛ ففِي فتاوَى ابْنِ رُشْدٍ الجَدِّ وأَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ علَى أَنَّ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ تَنَالُهُمْ شَفَاعَتُهُ في إِخْراجِهِمْ مِنَ النَّارِ فَلا يُحْرَمُ أَحَدٌ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ إلّا الكُفَّار اهـ فَانْظُروا رَحِمَكُمُ اللهُ إلى قولِه “أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ” وإلى قولِه “لا يُحْرَمُ أَحَدٌ مِنْ شَفاعتِه إلّا الكُفَّار” أيْ هذا مِمَّا أَجْمَعَتْ عليهِ الأُمَّةُ، واللهُ عَزَّ وجلَّ يَقُولُ ﴿لَا يَجِدُونَ وَلِيّا وَلَا نَصِيرا ٦٥﴾[8]. ومعَ ذلكَ تَجِدُ بَعْضَ الناسِ يَنْشُرونَ كلامًا فَاسِدًا على خِلافِ القُرءانِ يقولونَ فيهِ والعِياذُ باللهِ تعالى إنَّ النبيَّ يَشْفَعُ في بَدْءِ الحِسَابِ أَوْ تَخْفِيفِ الكَرْبِ أَوْ تَخْفِيفِ العَذَابِ عَنِ الكُفَّارِ، وهذَا باطِلٌ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وذِكْرُهُ على مَسَامِعِكُمْ مِنَ الآيَاتِ والأَحادِيثِ والإِجْمَاعِ.

أَقُولُ قَولِي هذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُم.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه.

اللهُمَّ أصلِحْ لنا دينَنَا الذِى هو عِصْمَةُ أمرِنَا وأَصْلِحْ لنا دُنيانَا التِى فيها مَعَاشُنَا وأصلِحْ لنا ءاخِرَتَنَا التِى فيها مَعَادُنَا واجْعَلِ الحيَاةَ زيادَةً لنا فِى كلّ خيرٍ واجعلِ الموتَ راحةً لنا مِنْ كلّ شرّ اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زوالِ نعمَتِكَ وتحوُّلِ عَافِيَتِكَ وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وجميعِ سَخَطِكَ اللهمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا وَمَا أَسْرَرْنا وَمَا أَعْلَنَّا وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بهِ مِنَّا أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وأَنْتَ علَى كُلِّ شَیْءٍ قَدِيرٌ اللهمَّ الْطُفْ بالمسلمينَ واكْفِهِمْ ما أَهَمَّهُمْ وَقِهِمْ شَرَّ مَا يَتَخَوَّفُونَ وَفَرِّجْ كُرُباتِهِمْ واشفِ مرضاهُمْ وَارْحَمْ مَوتَاهُمُ الْمُؤمِنِين. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ وَالِإحسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَی عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.

[1] رواه ابن ماجه في كتاب الزهد.

[2] رواه أبو داود باب الشفاعة والترمذي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم والطبراني.

[3] رواه أحمد والترمذي.

[4] رواه البخاري باب صفة الجنة والنار.

[5] سورة المدثر.

[6] سورة النبأ.

[7] سورة الشعراء.

[8] سورة الأحزاب.