إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ولا مثيلَ له ولا ضدَّ ولا ندَّ له، وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرةَ أعينِنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلى الله وسلم عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
هوَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ الإِمَامُ الحافِظُ العَلاَّمَةُ المُجْتَهِدُ الزَّاهِدُ العَابِدُ رَحِمَهُ اللهُ وَرَضِيَ عنهُ. كان حَسَنَ الخلْق والخُلُقِ، حَرِيصا على العَدْلِ، وَافِرَ العِلْمِ، فقيهَ النفْسِ، طَاهِرَ الذَّكَاءِ والفَهْمِ، أَوَّاها مُنِيبَا، قَانِتًا للهِ نَاطِقًا بِالحَقِّ مَعَ قلِّةِ المُعِينِ عُدَّ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالعُلَمَاءِ العامِلينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مُجَدِّدٍ كَانَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ.
كانَ رضيَ اللهُ عنهُ أَبْيَضَ رَقِيقَ الوَجْهِ جَمِيلاً نَحِيفَ الجِسْمِ حَسَنَ اللحيَةِ غَائِرَ العَيْنَيْنِ بِجَبْهَتِهِ أَثَرُ حَافِرِ دَابَّةٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَشَحَّ بَنِي أُمَيَّةَ.
عُمَرُ بنُ عَبْدُ العَزِيزِ بَكَى وهوَ غُلامٌ صَغِيرٌ فأَرْسَلَتْ إلَيْهِ أُمُّهُ وَقَالَتْ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: “ذَكَرْتُ المَوْتَ”. ذَكَرَ المَوْتَ فَبَكَى.
وفي زَمَنِ خِلافَتِهِ كَانَتِ الغَنَمُ وَالذِّئَابُ تَرعَى في مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَلَقَدْ جَاءَ في كِتَابِ حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ كُنْتُ أَحْلبُ الغَنَمَ في خِلافَةِ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ فَمَرَرْتُ بِرَاعٍ وفي غَنَمِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلاثِينَ ذئبًا فَحَسِبْتُها كِلابًا وَلَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ الذِّئَابَ قَبْلَ ذلكَ فَقُلْتُ: يَا رَاعي مَا تَرْجُو بِهذِهِ الكِلابِ كُلِّهَا ؟ فَقَالَ: يا بُنَيَّ إِنَّها لَيْسَتْ كِلابًا إِنَّمَا هِيَ ذِئَابٌ. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ ذِئْبٌ في غَنَمٍ لا تَضُرُّها ؟ فَقَالَ: “يَا بُنَيَّ إذَا صَلَحَ الرَّأْسُ فَلَيْسَ عَلَى الجَسَدِ بَأْسٌ”.
دخلَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وهوَ أميرُ المؤمنينَ دخلَ على امرأتِهِ فاطمةَ بنتِ عبدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَائِلاً لَهَا: عِنْدَكِ دِرْهَمٌ أَشْتَرِي بِهِ عِنَبًا ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: عِنْدَكِ فُلُوسٌ أَشْتَرِي بِهَا عِنَبًا ؟ قالَتْ: لا، فأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: أَنْتَ أَمِيرُ المؤمنينَ لا تَقْدِرُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلا فُلُوسٍ تَشْتَرِي بِهَا عِنَبًا ؟ قَالَ: هَذَا أَهْوَنُ عَلَيْنَا مِنْ مُعَالَجَةِ الأَغْلالِ غَدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
وعنْ مُسْلِمَةَ بْنِ عَبْدِ الملِكِ قالَ: دَخَلْتُ على عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ أَعُودُهُ في مَرَضِهِ فإذا عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَسِخٌ فَقُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الملِكِ يا فاطِمَةُ اغْسِلِي قَمِيصَ أَمِيرِ المؤمنينَ، قَالَتْ: نَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ، ثم عُدْتُ فإذَا القَمِيصُ على حالِهِ، فَقُلْتُ يَا فَاطِمَةُ ألَمْ ءَامُرْكُمْ أنْ تَغْسِلُوا قَمِيصَ أَمِيرِ المؤمِنِينَ؟ فَإِنَّ الناسَ يَعُودُونَهُ. قَالَتْ: واللهِ مَا لَهُ قَمِيصٌ غيرُهُ.
ويُرْوَى عنهُ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّه قالَ: “أَلاَ إِنَّ الدنيا بَقَاؤُها قَلِيلٌ وَغَنِيُّها فَقِيرٌ فلا يَغُرَّنَّكُمْ إقبالُها معَ معرفتِكُمْ بِسُرْعَةِ إِدْبَارِها، والمغرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا، أَينَ سُكَّانُها الذِينَ بَنَوْا مَدَائِنَها وَأَقَامُوا فيهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً غَرَّتْهُمْ بِصِحَّتِهم وَغُرُّوا بِنَشَاطِهِمْ فَرَكِبُوا المعاصِيَ مَا صَنَعَ التُّرابُ بِأَبْدَانِهِم، والرَّمْلُ بأَجْسَادِهِم؟ والدِّيدَانُ بِعِظَامِهِم وَأَوْصَالِهِم؟ كانُوا في الدنيا على أَسِرَّةٍ مُمَهَّدَةٍ بَيْنَ خَدَمٍ يَخدِمُونَ وأهلٍ يُكْرَمُونَ وجيرانٍ يَعْضِدُونَ فإذا مَرَرْتَ فنادِهِمْ إِنْ كُنْتَ مُنَادِيًا وَسَلْ غنيَّهُمْ ما بَقِيَ مِنْ غِنَاهُ وَسَلْ فقيرَهمْ مَا بَقِيَ مِنْ فَقرِهِ، وسَلْهمْ عنِ الجُلودِ الرَّقيقَةِ والوُجُوهِ الحَسَنَةِ فكمْ مِنْ نَاعِمٍ وَنَاعِمَةٍ أصبَحُوا وَوُجُوهُهُم بَالِيَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ مِنْ أَعْنَاقِهِم نَائِيَةٌ وأَوْصَالُهُم مُمَزَّقَةٌ قَدْ سَالَتِ الحِدَقُ على الوَجَنَاتِ وَامْتَلأَتِ الأَفْوَاهُ دَمًا وَصَدِيدًا وَدَبَّتْ دَوَابُّ الأَرْضِ في أَجْسَادِهِمْ فَفَرَّقَتْ أَعْضَاءَهُم ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا وَاللهِ إلاَّ يَسِيرًا حَتَّى عَادَتِ العِظَامُ رَمِيمًا”.
إنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ لَمّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ رَدَّدَ مِرارًا قولَ اللهِ تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ سورة القصص 83.
كمْ هُوَ عظيمٌ أنْ نَقْتَدِيَ بهؤلاءِ الرجالِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ سِيَرِهِمْ ومَنَاقِبِهمْ نَزْدَادُ وَرَعًا وإقبالاً على الآخرةِ وإدبارًا عن هذهِ الدنيا الفانيةِ، واللهُ تعالى يقولُ: ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ سورة الأعلى/17.
تُوفيَ رحمهُ اللهُ فِي رَجب سنةَ مائةٍ وواحدٍ للهجرةِ وكانتْ خِلافتُه سنتَينِ وخمسَة أشهرٍ، وماتَ وهوَ ابنُ تسعٍ وثلاثينَ سنَة وأشهُر فِي مَحلةٍ يقالُ لهَا: «دِير سمعَان» بِمدينةِ حِمص. رضيَ اللهُ عنهُ ونفعنَا ببركَاتِه وبركاتِ جدِّه عمرَ بنِ الخطابِ.
اللهمَّ زَهِّدْنا في هذهِ الدنيا وأَخْرِجْنا منهَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ.