إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ ِمنْ شُرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مَثِيلَ ولا شبيهَ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَهُ. وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنا مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشّرًا ونذيرًا بَلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جَزى نبيًّا مِنْ أنبيائهِ. اللهُمَّ صَلِّ على سَيِّدِنا مَحمَّدٍ وعلَى ءالِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
أما بعدُ فيَا عِبادَ اللهِ أُوصِيكُم ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ. روى الحافظُ أبو نُعيمٍ في تاريخِ أصبَهانَ عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قالَ جاءَ مُشْرِكُو قُريشٍ إلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخاصِمُونَهُ فِي القَدَرِ فَنَزَلَتْ هذهِ الآيَاتُ ﴿إِنَّ ٱلۡمُجۡرِمِينَ فِي ضَلَٰلٖ وَسُعُرٖ ٤٧ يَوۡمَ يُسۡحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ٤٨ إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩﴾ [1].
إِخوَةَ الإِيمان، إنَّ مِنْ أُصولِ عقائدِ المسلمينَ الْإِيمانَ بِقَدَرِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أنَّ رسولَ اللهِ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الإيمانِ قالَ الإيمانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وملائكتِه وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اﻫ وَمعنَى قولِه صلى الله عليه وسلم وتؤمنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَنَّ تُؤمنَ أنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الوُجودِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللهِ الأزَلِيِّ فالطاعَةُ التِي تحصُلُ مِنَ المخلوقِينَ والمعصِيَةُ التي تَحْصُلُ منهُمْ كُلٌّ بِخَلْقِ اللهِ وإيجادِهِ إِيَّاهَا وبعلمِهِ ومشيئَتِهِ وليسَ مَعْنَى ذلكَ أَنَّ اللهَ يَرْضَى بِالشَّرِّ ولا أنَّهُ يَأْمُرُ بِالمعصيةِ إنَّمَا الخيرُ مِنْ أَعْمالِ العِبادِ بِتَقْدِيرِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ والشَّرُّ مِنْ أَعْمالِ العِبادِ بِتَقْديرِ اللهِ لا بِمَحبَّتِهِ وَرِضَاهُ، قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ رضىَ اللهُ عنهُ الذي هو مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ إِنَّ الوَاجِبَاتِ كلَّها التي يَفْعَلُها العَبْدُ هِيَ بِأَمْرِ اللهِ تعالَى ومَحَبَّتِهِ وبِرِضَائِهِ وعِلْمِهِ ومَشيئَتِهِ وقَضَائِهِ وتَقديرِه والمعاصِيَ كُلَّها بِعِلْمِهِ وقضائِهِ وتَقْدِيرِهِ ومشيئتِهِ لا بِمَحَبَّتِهِ وَلَا بِرِضَائِهِ وَلَا بِأَمْرِه اﻫ فَفَرْقٌ أيها الأحبَّةُ بينَ المشيئَةِ وبينَ الأَمْرِ فَاللهُ لَمْ يَأْمُرْ بالكُفْرِ والمعاصِى لكنْ كُفْرُ الكافرينَ ومعصيةُ العُصاةِ لا يُمكنُ أن يحصُلَ شىءٌ منها لَوْ لَمْ يَشَإِ اللهُ حُصُولَهُ وإِلّا لَوْ كانَ يَحْصُلُ ما لَمْ يشإِ اللهُ حُصولَهُ لكانَ عَاجِزًا والعَجْزُ علَى اللهِ مُحَالٌ واللهُ تعالى غالبٌ على أَمْرِه.
وليسَ لِقائِلٍ أن يقولَ إِنَّهُ إذَا كانَتِ المعصيةُ بِمشيئةِ اللهِ فكيفَ يُعَذِّبُهُ اللهُ فَاللهُ لا يُسئَلُ عمَّا يفعَلُ بَلْ إِذَا عَذَّبَ اللهُ تعالَى العاصِيَ فَبِعَدْلِهِ مِنْ غَيْرِ ظُلمٍ، وإِذَا أثَابَ الْمُطِيعَ فَبِفَضْلِهِ مِنْ غيرِ وُجوبٍ عليهِ، لأنَّ الظلمَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لَهُ ءامِرٌ ونَاهٍ وَلا ءَامِرَ للهِ وَلا نَاهِيَ لَهُ، فَهُوَ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِهِ كمَا يشَاءُ لأنَّهُ خالِقُ الأشياءِ وَمَالِكُها، وَقد جاءَ في الحديثِ الصّحيحِ الذي رواهُ أبو داودَ وغيرُه عنِ ابنِ الدَّيْلَمِيِّ أن زيدَ بْنَ ثابِتٍ حدَّثَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ إنَّ اللهَ لو عَذَّبَ أهلَ أَرْضِهِ وسَماوَاتِه لعذَّبَهُمْ وهو غيرُ ظالِمٍ لَهُمْ ولَوْ رحِمَهُمْ كانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعمالِهِمْ، ولَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا في سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، وتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ اﻫ
وقد رَوَى أَبُو داود في سُنَنِهِ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّمَ بَعْضَ بَنَاتِهِ مَا شَاءَ اللهُ كانَ ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ اﻫ فَمَشِيئَةُ اللهِ الأزَلِيَّةُ نافذَةٌ لا تَتَخَلَّفُ ولا تتغَيَّرُ وكلُّ ما أرادَ اللهُ حُصولَه بِمشيئتِهِ الأزليةِ لا بد أن يحصُلَ في الوَقتِ الذِى شَاءَ حصولَه وما لَمْ يُرِدْ حُصولَهُ فلا يُوجَدُ ولا يَكونُ. وليسَ معنَى هذا أيُّها الأحبَّةُ أنَّ العبادَ لا مشيئَةَ لَهُمْ بِالْمَرَّةِ كما قالَتْ فِرْقَةٌ ظهَرَتْ فى الماضِى وانْقَرَضَتْ يُقالُ لَهَا الْجَبْرِيَّةُ كانَتْ تَقُولُ إنَّ العَبْدَ كَالرِّيشَةِ في الهواءِ لا اخْتِيارَ لهُ بِالْمَرَّةِ بَلِ اعْتِقَادُ ذلكَ تَكْذِيبٌ لِلدِّينِ فقَدْ قالَ اللهُ تعالَى في القُرْءَانِ الكَريم ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٩﴾[2] فَأَثْبَتَ اللهُ لِلْعَبْدِ الْمَشِيئَةَ ولكن تَحْتَ مشيئةِ اللهِ تعالَى وليسَتْ غَالِبَةً لَهَا كَمَا قَالَتِ القَدَرِيَّةُ وهِىَ فرقَةٌ أُخْرَى انْتَسَبَتْ لِلإسلامِ في الماضِى وليسَ لهم نَصِيبٌ فِيهِ قَالُوا إِنَّ اللهَ شاءَ الخيرَ لِكُلِّ العِبَادِ لكن بعضُ العبادِ عَصَوْا غَصْبًا عَنْ مَشِيئَةِ اللهِ فجعَلُوا اللهَ مَغْلُوبًا عَاجِزًا والعياذُ باللهِ مِنْ فَسَادِ الاعْتِقَادِ، وإنما الحقُّ والصوابُ أنَّ العِبادَ لَهُمْ مَشيئَةٌ واختِيارٌ لكنَّها تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ فَلا أَحَدَ يَسْتطيعُ أَنْ يَفْعَلَ شَيئًا لَمْ يُرِدِ اللهُ حُصولَهُ كمَا يَدُلُّ علَى ذلكَ قولُه تعالَى ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٩﴾ فهذِهِ الآيَةُ إِخْوَةَ الإيمانِ فيهَا الرَّدُّ علَى الْجَبْرِيَّةِ الّذينَ يَنْفُونَ المشيئَةَ والاختِيارَ عنِ العِبادِ بِالمرَّةِ وفيهَا الرَّدُّ علَى القَدَرِيَّةِ الذينَ كانُوا يَقُولونَ بأنَّ اللهَ شاءَ لِكُلِّ العبادِ حتَّى لِفِرْعَوْنَ أن يكونَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا وكذلكَ لإبليسَ ولكنَّ الكفارَ نَقَضُوا مَشِيئَةَ اللهِ وغَلَبُوهَا، فجَعَلُوا اللهَ مغلوبًا وَاللهُ تعالَى غَالِبٌ غيرُ مَغْلوبٍ كَمَا قالَ تعالَى ﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِ﴾[3] وكمَا قالَ سبحانَه ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ مِنِّي لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ ١٣﴾[4].
وَقَدْ أَخْبَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هذِهِ الفِرْقَةِ أَىِ القَدَرِيَّةِ قبلَ ظُهورِهِمْ وحذَّرَ مِنْهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ كَمَا رَوَى البيهقِىُّ فى كِتابِ القَدَرِ وغيره عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِي الإِسلامِ القَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ اﻫ فَلا يَجوزُ الشَّكُّ فى زَيْغِ القَدَرِيَّةِ وَخَلَفِهِمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلا بدَّ مِنَ الحذَرِ مِنَ اعْتِقادِهِمْ. اللهُمَّ احْفَظْ لَنَا دِينَنَا الّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا وَاهْدِنَا وَسَدِّدْنَا وَاخْتِمْ لَنَا بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا. هذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبةُ الثانيةُ
إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتقوه.
إخوةَ الإِيمانِ، إنَّ تَحذيرَنا في خُطَبِ الجمعةِ مِنْ بَعْضِ الكلماتِ الْمُخالِفَةِ لِلشَّرعِ هو مِنَ العَمَلِ بِقَولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الدِّينُ النَّصِيحَةُ اهـ والعِبارةُ التِي نُحَذِّرُكُمْ مِنْهَا اليومَ قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ “شاءَتِ الأَقْدَار” أو “شاءَ القَدَر” وذلكَ لأَنَّ القَدَرَ لا يُوصَفُ بِالمشيئَةِ إنما اللهُ يُوصَفُ بالمشيئةِ فَهُوَ الذِي لهُ المشيئَةُ الأزليةُ التي بِهَا يُخَصِّصُ الحادِثَاتِ علَى حَسَبِ عِلْمِهِ مِنْ حَيْثُ وُجودُها وكَيْفِيَّاتُهَا وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ التَّغَيُّرِ.
اللهم إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهم لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهم بِجاهِ نَبِيِّكَ محمَّدٍ ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ وأَدْخِلْنَا الجنَّةَ مَعَ الأَبْرَارِ يَا عَزِيزُ يَا غَفَّارُ اللهم اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللهم استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهم اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَقِمِ الصلاةَ.
[1] سورة القمر/47 ـ 49.
[2] سورة التكوير/29.
[3] سورة يوسف/21.
[4] سورة السجدة/13.