الإجماعُ وَالبِدْعَةُ الحسنَةُ والاحتِفالُ بِمَولِدِه صلى اللهُ عليه وسلم والتحذيرُ مما وردَ في كتابِ مولِدِ العَرُوس

إنَّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونتوبُ إليهِ، ونَعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنا وحَبِيبَنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفِيُّهُ وخليلُه مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رَحمةً للعالَمينَ هادِيًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإِذْنِه وسراجًا منيرًا، بلَّغَ الرِّسالةَ وأدَّى الأمانَةَ ونَصحَ الأُمَّةَ فجزَاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جزَى نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيائِه، اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمدٍ وعلى ءالِه وأصحابِه الطَّيِّبينَ الطاهرين. وبعد عباد الله فإنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَديرِ القَائِلِ في مُحكمِ كتابِه {وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥}[1] إخوةَ الإِيمانِ دَلَّتْ هَذِه الآيَةُ الكريمَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ النَّجاةَ علَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ سبيلَ الْمُؤْمِنينَ أي ما أَجْمَعَ عليهِ عُلمَاءُ المسلمينَ وأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذلك فجَزَاؤُهُ جهنَّمُ وبِئْسَ المصِيرُ وجاءَ في الحديثِ الْمَوقوفِ عنِ الصحابِيِّ الجليلِ عبدِ اللهِ بن ِمسعودٍ أنهُ قالَ مَا رَءَاهُ المسلِمونَ حسنًا –

أَيْ أَجْمَعُوا علَى أَنَّهُ حَسَنٌ – فهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وما رءاهُ المسلِمُونَ قبيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ قَبِيحٌ اهـ[2]. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَحْسَنَتْهُ الأُمَّةُ أَيُّهَا الأَحِبَّةُ وأَجْمَعَتْ عَلَى مَشْروعيَّتِهِ الاحتِفَالُ بِذِكرى وِلادَتِه صلى الله عليه وسلم فإنّهُ مِنَ الطَّاعاتِ العَظيمةِ التِي يُثابُ فاعِلُها لِمَا فيهِ مِنْ إِظهارِ الفَرحِ والاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشريفِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكنْ في زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنَ البِدَعِ الحسنَةِ التِي اتَّفَقَ علماءُ الأمَّةِ على جَوازِها وأَوَّلُ مَا حَدَثَ هذَا الاحتِفالُ في أوائِلِ القرنِ السابِعِ مِنَ الهِجرةِ أَحدَثَهُ ذلكَ التقيُّ العالِمُ الملكُ الْمُظَفَّرُ مَلِكُ إِرْبِل، وَجَمَعَ لِهذَا كثيرًا مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ فَاسْتَحْسَنُوا فِعْلَهُ ومدَحُوهُ ولَمْ يُنْكِرُوهُ وهكَذَا العُلماءُ بعدَهُم أيّها الأحبَّةُ لَمْ يُنْكِرْ فِعْلَ المولدِ أحدٌ منهم بَلْ أَلَّفَ فيهِ الحافِظُ ابنُ دِحْيَةَ وغيرُهُ واسْتَحْسَنَ عَمَلَهُ الحافظُ العراقيُّ والحافِظُ ابنُ حَجَرٍ والسُّيوطيُّ وغيرُه حتَّى ظَهَرَ في القَرنِ الماضِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُجَسِّمَةِ نُفاةِ التوسُّلِ فَأَنْكَرُوا فِعْلَ المولِدِ إِنْكَارًا شديدًا أي أنكروا مَا اسْتَحْسَنَتْهُ الأُمَّةُ جَمْعَاءُ لِعُصُورٍ مُتَتَالِيَةٍ وَزَعَمُوا بِجَهْلِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى الدِّينِ أَنَّهُ بِدْعَةُ ضَلالَةٍ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ وَضَعُوهُ في غَيرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ حَدِيثُ كُلّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة اﻫ وَأَرادُوا أَنْ يُمَوِّهُوا بِهِ عَلَى الناسِ. وَهذَا الحَديثُ صَحِيحٌ لكن مَعناهُ غيرُ ما زعموا. إنما معناهُ أَنَّ مَا اسْتُحْدِثَ بعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ بِدْعَةٌ غَيرُ حسنَةٍ إلّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ فَإِنَّهُ لا يَكونُ مَذْمُومًا. فَكَلِمَةُ كلّ يُرادُ بِهَا هُنَا الأَغلبُ لا الجميعُ بِلا اسْتِثْنَاءٍ كمَا في قولِه تعالى في الرِّيحِ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۢ بِأَمۡرِ رَبِّهَا}[3] ولم تُدَمِّرِ الأرضَ ولَا الجِبالَ. وصَحَّ في صحيحِ مسلمٍ وغيرِهِ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بعدَهُ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجورِهِم شَىءٌ اهـ ولِذَلكَ قالَ الإِمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه البِدْعَةُ بِدْعَتَانِ مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ، فمَا وافَقَ السُّنَّةَ فهُوَ محمودٌ ومَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ اهـ رواهُ عنهُ الإِمامُ البيهقِيُّ وغيرُه. ثم كيفَ يا أَهلَ الفَهْمِ يَقُولُ هؤلاءِ المحرومونَ عَنِ اجْتِمَاعِ المسلمينَ علَى قِراءَةِ القُرءانِ وذِكْرِ الرَّحمنِ ومَدْحِ محمدٍ سَيِّدِ الأَكوانِ مِمَّا شرَعَهُ اللهُ والرسولُ وتَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبولِ إنهُ بِدْعَةُ ضَلالٍ وكَيفَ يَجْرُؤونَ على ذلكَ، أَلَمْ يَسْمَعُوا قولَهُ تعالَى {فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ}[4] وقولَه عزَّ وَجَلّ {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرا كَثِيرا ٤١}[5] أَلَمْ يَرِدْ مَدْحُ النبِيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في القُرءانِ الكَريمِ فقَالَ اللهُ عزَّ مِنْ قَائِلٍ عَنْ حَبِيبِه المصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم ٤}[6] .

فلا يُهَوِّلَنَّكُمْ عبادَ اللهِ رَحِمَكُمُ اللهُ كلامُ نُفاةِ التَّوسُّلِ المحرومينَ مِنْ مَحَبَّةِ نبيِّنَا رَسُولِ ربِّنا عليهِ أَفْضَلُ الصلاةِ والتَّسليمِ الذينَ يَزْعُمونَ أَنَّ المسلمينَ كانُوا علَى ضَلالٍ في احْتِفَالِهِمْ بالمولِدِ الشريفِ حَتَّى جَاءُوا هُمْ فَعَرَفُوا الحقَّ، لا تَغْتَرُّوا بِشُبَهِهِمْ وَلا تَلْتَفِتُوا إلَى إِنكارِهِمْ واحتَفِلُوا بِالمولِدِ الشريفِ واقْرَأُوا القُرْءَانَ واقْرَأُوا مَا حَصَلَ عندَ مَولِدِهِ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الآيَاتِ البَاهِرَاتِ وَامْدَحُوهُ بِحُسْنِ النِّيَّةِ وَعَظِّمُوا قَدْرَهُ وَلا تُبالُوا بِمُنْكِرٍ أَوْ جَاحِدٍ

هذا النبِيُّ محمَّدٌ خيْرُ الوَرَى       وَنَبِيُّهُم   وَبِهِ   تَشَـرَّفَ  ءَادَمُ

هو فِي المدينَةِ ثَاوِيًا بِضَرِيحِهِ       حَقًّا وَيَسْمَعُ مَنْ عَلَيْهِ  يُسَلِّمُ

وإذا تَوَسَّلَ مُسْتَضَامٌ بِاسْمِهِ       زَالَ الذي مِنْ  أَجْـلِه  يَتَوَهَّمُ

صلَّى عليهِ اللهُ جَلَّ  جَلالُهُ       مَا رَاحَ  حَادٍ  بِاسْـمِهِ   يَتَرنَّمُ

هذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

 

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه.

إخوة الإيمان، يقولُ اللهُ تَعَالى في سُورَةِ الإخلاصِ ﴿لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ٣﴾ والمعنى أَنَّ الله لَيْسَ أَبًا وَلا ابْنًا فَقَوْلُهُ ﴿لَمۡ يَلِدۡ﴾ يُعْطِى هَذَا الْمَعْنَى أَىْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْهُ شَىْءٌ كَمَا يَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ وَلَدُهُ وَقَوْلُهُ ﴿وَلَمۡ يُولَدۡ ٣﴾ يُعْطِى أَنَّهُ لا يَحُلُّ هُوَ فِى شَىْءٍ. فَاحْذَرُوا أَيُّها الأَحِبَّةُ مَا وَرَدَ فِى كِتَابِ مَوْلِدِ الْعَرُوسِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهَا كُونِى مُحَمَّدًا فَكَانَتْ مُحَمَّدًا فَهَذِهِ مِنَ الأَبَاطِيلِ الْمَدْسُوسَةِ الَّتِى أَدْخَلَهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الإِسْلامِ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ أَجْزَاءٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْضٌ وَجُزْءٌ وَعَنْ أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ فَمِنَ الاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ الْكُفْرِيَّةِ اعْتِقَادُ أَنَّ الرَّسُولَ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَجَعَلُواْ لَهُۥ مِنۡ عِبَادِهِۦ جُزۡءًا﴾[7] وَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ ذلكَ فَلْيَرْجِعْ إلى الإسلامِ بالنُّطقِ بالشَّهادَتَين.

اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ ربَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ اللهمَّ عَلِّمْنَا مَا جَهِلْنَا وَذَكِّرْنا مَا نَسِينَا وَزِدْنَا عِلْمًا اللهمَّ أَوْزِعْنَا أَنْ نَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ علينَا وأَنْ نَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحينَ اللهمَّ الْطُفْ بالمسلمينَ واكْفِهِمْ ما أَهَمَّهُمْ وَقِهِمْ شَرَّ مَا يَتَخَوَّفُونَ وَفَرِّجْ كُرُباتِهِمْ واشفِ مرضاهُمْ وَارْحَمْ مَوتَاهُمُ الْمُؤمِنِين اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة النساء

[2] قال الحافظ ابن حجر “هذا موقوف حسن”.

[3] سورة الأحقاف/ ءاية 25.

[4] سورة المزمل/ءاية 20

[5] سورة الأحزاب

[6] سورة القلم

[7] سورة الزخرفءاية 15.