إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ ِمنْ شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَهُ ولا مثيلَ ولا شبيهَ ولا مكان له، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنا مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه. صلى اللهُ وسلَّمَ على سيدِنا محمدٍ وعلى كُلِّ رسولٍ أرسَلَه. أما بعد عبادَ اللهِ، فإِنِّي أُوصِى نفسِى وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ القَدِيرِ القَائِلِ في مُحكمِ كِتابِه ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾[1] إخوةَ الإيمانِ دَلَّتْ هذهِ الآيةُ الكريمةُ على أنَّ مَنْ أَرَادَ النجاةَ عليهِ أن يَلْتَزِمَ سبيلَ المؤمنينَ أي مَا أَجْمعَ عليهِ علماءُ المسلمينَ وأنَّ مَنْ أَعْرَضَ عن ذلكَ فجزَاؤُه جهنَّمُ وَبِئْسَ المصير.
ومِنْ أصولِ عقائدِ المؤمنينَ التي دَلَّتْ عليهَا الأَدِلَّةُ والبراهينُ القاطعةُ مِنَ القُرْءَانِ والحدِيثِ والعَقْلِ والإِجماعِ تَنْزِيهُ اللهِ سبحانه وتعالى عنِ التَّحَيُّزِ في مَكَانٍ أوِ الانْتِشَارِ في الأَماكِن، فربُّنا سبحانَه وتعالى هو خالِقُ المكان، كانَ قبلَ الأماكِنِ كُلِّها مِنْ غيرِ احتِياجٍ إليهَا ثم خَلقَ الأماكِنَ وبعدَ خَلْقِهَا ما زالَ كمَا كانَ موجودًا بِلا مكانٍ لأنهُ سبحانَهُ يُغَيِّرُ ولا يَتَغَيَّرُ كما اشتَهَرَ ذلك بينَ عَوامِّ المسلمينَ وخَواصِّهِمْ إِذْ لَوْ جَازَ عليهِ التَّغَيُّرُ لَاحْتَاجَ إلى مَنْ يُغَيِّرُه والْمُحْتَاجُ إلى غيرِه لا يكونُ إِلها.
ثم المكانُ إخوةَ الإيمانِ هو الفراغُ الذِي يشغلُه الجِسْمُ، وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ هُوَ ما يأخُذُه الحَجْمُ مِنَ الفَراغ، فَلَو كانَ اللهُ في مَكانٍ لكانَ جسمًا لهُ طُولٌ وعَرْضٌ وعُمْقٌ كمَا أنَّ الشَّمْسَ لَها طولٌ وعرضٌ وعُمْقٌ وحَجْمٌ وشَكْلٌ ومن كانَ كذلكَ كانَ بِلا شَكٍّ مَخْلُوقًا مثلَ المخلوقينَ مُحتاجًا إلى مَنْ خَصَّهُ بذلكَ الطولِ وذلكَ العَرْضِ وذلكَ العُمْقِ، والاحتياجُ يُنافِي الألوهيةَ، فوجبَ عَقْلًا تنزيهُ اللهِ عَنِ المكانِ. هذا الدليلُ مِنَ العَقْلِ.
أمّا مِنَ القُرءانِ فيدلُّ علَى تنزيهِ اللهِ عنِ المكانِ ءاياتٌ منها قولُه تعالى ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡء﴾[2] لأنهُ لو كانَ اللهُ لهُ مكانٌ لكانَ له أَشْبَاهٌ كثيرةٌ وأمثالٌ لا تُحْصَى وهذا ضِدُّ هذه الآيةِ ومُنَافٍ لها، فهذهِ الآيةُ الْمُحْكَمَةُ كافِيَةٌ لِتَنْزِيهِ اللهِ عَنِ المكانِ والحيِّزِ والجِهَةِ بَلْ وَعَنْ سَائِرِ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقِين.
وأما الدليلُ منَ الحديثِ على تنزيهِ اللهِ عنِ المكانِ فَمِنْهُ مَا رَوَاهُ البخاريُّ والبيهقيُّ وغيرُهما بِالإِسنادِ الصحيحِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ كانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ اﻫ ومعناهُ أنَّ اللهَ لم يَزَلْ موجودًا في الأزلِ ليسَ معهُ غيرُه لا مَاءٌ ولا هواءٌ ولا أَرضٌ ولا سماءٌ ولا كرسيٌّ ولا عرشٌ ولا إنسٌ ولا جنٌّ ولا ملائكةٌ ولا زمانٌ ولا مكانٌ ولا جهاتٌ فهو تعالى موجودٌ قبلَ المكانِ بلا مكانٍ لأنَّ المكانَ هو غيرُ اللهِ بلا شكٍّ والحديثُ يدلُّ على أنَّ اللهَ كانَ ولم يكن شىءٌ غيرُه موجودًا إذ لم يكنِ المكانُ موجودًا وإنما هو مخلوقٌ خلقَه اللهُ فليسَ اللهُ بِحاجةٍ إليهِ ومِنْ هُنا رَوَوْا عنْ سيدِنا عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ قال كانَ اللهُ ولا مكان وهُوَ الآنَ علَى ما عليهِ كان[3] اﻫ أي موجودٌ بِلا مكانٍ وهذا مفهومٌ بِوُضُوحٍ مِنَ الحديثِ السابقِ.
وقالَ الحافظُ البيهقيُّ في كتابِه الأسماءِ والصِّفاتِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحابِنا في نَفْيِ المكانِ عَنِ اللهِ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنتَ الظّاهِرُ فليسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وأنتَ البَاطِنُ فليسَ دُونَكَ شَىء اﻫ ثم قالَ البيهقيُّ وإذَا لم يكنْ فوقَهُ شىءٌ ولا دُونَهُ شَىْءٌ لم يكنْ في مَكانٍ اهـ وهو أَمْرٌ شَدِيدُ الوُضُوحِ ظَاهِرٌ كالشَّمْسِ.
إخوة الإيمان، تنزيهُ اللهِ عنِ المكانِ يَدُلُّ عليهِ القرءانُ والسُّنَّةُ النَّبويةُ كما ذكَرْنا وكمَا تعرفونَ هو مِنْ أُصولِ عقائدِ المسلِمينَ بل هوَ مِمَّا أجمعَ عليهِ العلماءُ سَلَفُهُمْ وخَلَفُهُمْ وقَدْ نَقَلَ الإجماعَ على ذلكَ كثيرٌ مِنَ العلماءِ كأبِي مَنْصورٍ البغدادِيِّ وإِمامِ الحرمينِ الجُوَيْنِيِّ والرَّازِيِّ وغيرِهم ونَصُّ عبارةِ الإمامِ الفَقِيهِ الأُصُوليِّ الْمُؤَرِّخِ أبي منصورٍ البغدادِيِّ في كتابِهِ الفَرْقِ بينَ الفِرَقِ “وأجمعوا أي أَهلُ السنةِ أنهُ لا يَحْوِيهِ مَكانٌ ولا يَجْرِي عليهِ زَمَان” اﻫ
أخي المسلم فَهْمُ هذهِ المسئلةِ جيدًا معَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدِلَّتِها تَمَكُّنًا تَامًّا مِنَ الأُمورِ الْمُهِمَّةِ فَاحْرِصْ علَى التَّمَكُّنِ مِنْ فَهْمِهَا وَحِفْظِهَا وَبيانِها وَتَعْلِيمِها فَدِينُ اللهِ غَالٍ غَالٍ جِدًّا والشذوذُ في الاعتِقَادِ مُهْلِكٌ.
اللهمَّ ثَبِّتْنَا على العقيدةِ الحقَّةِ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وارْزُقْنَا هِمَّةً عاليةً لِنُصْرَةِ هذَا الدِّينِ بِجاهِ سَيِّدِ المرسلينَ إنكَ على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ. هذا وأستغفِرُ اللهَ لِي ولَكم.
الخطبةُ الثانيةُ
إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين.
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ أَلَا فَاتَّقُوهُ وَخَافُوهُ.
إخوةَ الإيمانِ إنَّ تنزيهَ اللهِ تعالى عَنِ المكانِ كما تقدَّمَ في الخُطبةِ الأولى عَقِيدَةُ كلِّ المسلمينَ وأمَّا قولُ اللهِ تعالى ﴿وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡ﴾[4] فمعنَاهُ بِإِجْمَاعِ المسلمينَ أنهُ تعالى مُحِيطٌ بِكُمْ عِلْمًا لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ أَيْنَمَا كُنْتُمْ. ولَيْسَ المعنَى أنه موجودٌ بِذَاتِه في كلِّ مكانٍ هذا لا يَلِيقُ باللهِ ومَنْ قالَ ذلكَ فقَدْ جَعَلَ اللهَ تعالى مُنْتَشِرًا في العالمِ وهذا كُفْرٌ شنيعٌ لأنهُ تكذيبٌ لقولِه تعالى ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡء﴾، وَمَنْ صَدَرَ منهُ ذلكَ فَلْيَتَشَهَّدْ. وأَمَّا مَنْ قالَ “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِى كُلِّ مَكَانٍ” إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ تَعَالى مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يَكْفُرُ وَهَذَا قَصْدُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَلْهَجُ بِهَذه الْكَلِمَةِ وَيَجِبُ النَّهْىُ عَنْها عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهَا لَيْسَت صَادِرَة عَنِ السَّلَفِ.
اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمّ اغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهمَّ يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلوبَنا علَى دِينِك، اللهم ثَبِّتْنَا علَى سبيلِ المؤمنين اللهم ثبِّتْنا على عقيدةِ نبيِّك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، اللهمَّ أحيِنا علَى الإسلام وتوَفَّنا علَى كامِلِ الإيمانِ، اللهمَّ الْطُفْ بالمسلمينَ واكْفِهِمْ ما أَهَمَّهُمْ وَقِهِمْ شَرَّ مَا يَتَخَوَّفُونَ وَفَرِّجْ كُرُباتِهِمْ واشفِ مرضاهُمْ وَارْحَمْ مَوتَاهُمُ الْمُؤمِنِين اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.
[1] سورة النساء/115.
[2] سورة الشورى/11.
[3] رواه أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق.
[4] سورة الحديد ءاية 3.