الحمدُ للهِ وكفى، وسلامٌ على عبادِه الذينَ اصطَفَى، الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ الفردِ الصمدِ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكن له كفُوا أحد، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا وحبيبِنا وقائدِنا وقرّةِ أعينِنا محمدٍ. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ الملكُ الحقُّ المبينُ وأشهدُ أنّ سيدَنا محمّدًا رسولُ اللهِ الصادقُ الوَعْدِ الأمينُ.
أما بعدُ عبادَ اللهِ فإني أوصي نفسي وإياكم بتقوى اللهِ العظيمِ والسّيرِ على خُطَا رسولِه الكَريمِ، قالَ اللهُ تبارك وتعالى في القرءانِ الكَريم {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثنَينِ إِذ هُمَا فِي ٱلغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحزَن إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُود لَّم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلعُليَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠}[1].
إخوةَ الإيمان، عندَما بُعِثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِالتَّبليغِ وَالإِنذارِ فكانَ يدعُو إلى اللهِ جَهْرًا ويَمرُّ بينَ العربِ المشركينَ حينَ كانُوا يجتمعونَ في الموسِمِ من نَواحٍ مختلفةٍ ويقولُ أيُّها الناسُ قُولُوا لا إله إلا اللهُ تُفْلِحُوا اﻫ[2] وَدعا عليهِ الصلاةُ والسلامُ إلى العَدلِ والإحسانِ ومَكارمِ الأخلاقِ ونَهى عنِ الْمُنْكَرِ والبَغيِ فآمنَ به بعضُ الناسِ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وبلالٍ وغيرِهم وبقِيَ علَى الكفْرِ أكثرُ الناسِ وصارُوا يُؤْذُونَه وأصحابَه فلَمَّا اشتدَّ عليهِمُ الأذَى أَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعضَ أَصْحَابِه بالهِجرةِ إلَى الحبَشةِ. وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ لَقِيَ في الْمَوْسِمِ نَفَرًا منْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنَ الخزرجِ فدَعاهُم إلَى الإسلام فأَسْلمُوا، ثُمَّ ازدَادَ عددُهم في العَامِ التَّالِي فلمَّا انصرَفوا بعَثَ معَهُمْ بعضَ أصحابِه صلى الله عليه وسلم لتعليمِ مَنْ أسلمَ مِنْ أهلِ يثربَ القُرءانَ ودعوةِ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ منهُمْ بَعْدُ إلَى الإسلام، فلمَّا كَثُرَ أنصارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بيثربَ أمرَ اللهُ المسلمينَ بِالهجرةِ إليهَا فهاجَرُوا إليها أَرْسَالًا جماعةً بعدَ جَماعةٍ. ثم جاءَ إخوةَ الإيمانِ أمرُ اللهِ تعالى لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم بِالهجرَةِ إلى يَثْرِبَ، أَمَرَهُ بتَرْكِ مَكَّةَ مَحَلِّ وِلادتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ التِي كانَتْ أحبَّ البلادِ إليهِ فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ تعالى وهاجرَ مُتَحَمِّلًا الْمَشَاقَّ في سَفَرِه طاعَةً للهِ تعالَى لا خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وجُبْنًا فإنه صلى الله عليه وسلم كانَ أشجعَ الناسِ، ولا يَأْسًا مِنْ واقِعِ الحالِ ولا حُبًّا في الشُّهرةِ والجَاهِ وَالسُّلطانِ فقد ذَهَبَ إليهِ أشرافُ مَكَّةَ وسَادَاتُها وقالُوا لهُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ علينَا ولكن كُفَّ عن ذِكْرِ ءَالِهَتِنا بِالسُّوء، ولكنَّ النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أَشْرَفُ من أَنْ يكونَ مقصودُه الدنيا والجاهَ والسُّلطانَ فقالَ لِعَمِّهِ أبي طالبٍ الذِي نقلَ إليهِ عَرْضَهُمْ واللهِ يا عَمُّ لَوْ وضعُوا الشمسَ في يَمِينِي والقمرَ في يَسارِي على أن أَترُكَ هذا الأَمْرَ ما تركتُه حتى يُظْهِرَهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى أو أَهْلِكَ دُونَه اﻫ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليكَ يا سيدِي يا رسولَ الله.
بعدَ ذلكَ أجمعَ مُشرِكو مَكَّةَ أَمْرَهُمْ علَى قَتْلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خَوفًا مِنْ خُروجِ دَعْوَتِه إلَى بَلَدٍ ءاخرَ فاتَّفَقُوا علَى أن يختارُوا مِنْ كُلِّ قبيلةٍ رجلًا جَلْدًا نَسِيبًا وَسِيطًا لِيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حتى يتفرَّقَ دمُه في القَبائِلِ ويعجِزَ بنُو عبدِ منافٍ عن مُحارَبةِ الكُلِّ فيَرْضَوْنَ بالدِّيَةِ، فأرسلَ اللهُ تبارك وتعالى جبريلَ إلى رسولِ اللهِ فأخبرَه بِمَكْرِ القَومِ وطلَبَ منهُ أن لا يَبِيتَ في مَضْجَعِهِ الذِي كانَ يَبِيتُ فيهِ فدَعا رسولُ اللهِ عليَّ بنَ أبي طالب لِيَبِيتَ في فِراشِه ويتَسجَّى بِبُرْدٍ لهُ أخضرَ ففعلَ ثم خرجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على القَوْمِ وهُمْ علَى بابِه ومعَهُ حَفْنَةُ تُرابٍ فَجَعَلَ يَذُرُّها على رؤُوسِهم وقد أخذَ اللهُ بأبصارِهم عن نَبِيِّه فلَمْ يَرَهُ أحدٌ منهم فلمَّا أصبَحُوا إذا هُمْ بعليِّ بنِ أبي طالبٍ فعرَفُوا أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد فاتَهم فرَكِبُوا في كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبونَه.
وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إخوةَ الإيمانِ قد سارَ معَ صاحبِه أبي بكرٍ الصِّديقِ حتّى وصَلا إلى غارِ ثورٍ فدَخَلاهُ وجاءتِ العنكبوتُ ونسجَتْ على بابِه وجاءَتْ حمامةٌ فباضَتْ ورقَدَتْ هُناكَ، وجاءَ الطَّلَبُ مِنْ رِجالِ قريشٍ فلمّا وصلُوا إلى الغَارِ قالَ أبو بكرٍ يا رسولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أحدَهم نظَرَ إلَى قدَمَيْهِ لأَبْصَرَنا فقالَ عليه الصلاة والسلام يا أبا بَكْرٍ ما ظنُّكَ بِاثْنينِ اللهُ ثالِثُهُما اﻫ[3] أي عالمٌ بِهما وحافظٌ لَهُما لا أنَّهُ سبحانهُ حالٌّ معهُما في الغَارِ تعالَى اللهُ عن ذلك. وهكذا كان حَفِظَ اللهُ رَسُولَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وصَاحِبَهُ مِنْ طَلبِ كُفّارِ قريشٍ لَهُمَا حتّى وصلا إلَى المدينةِ المنوَّرةِ حيثُ استَقْبَلَهُ المؤمنُونَ بِالفرحِ والبِشْرِ وسمَّى الرسولُ يثربَ “المدينةَ” وءاخَى بينَ أهلِها أي الأنصارِ وبينَ المهاجِرينَ فصارَ المسلمونَ على قَلْبِ رجلٍ واحدٍ كَمثَلِ البُنْيانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بعضُه. إخوةَ الإيمانِ إنَّ الدروسَ الْمُسْتَفادَةَ مِنَ الهِجرَةِ كثيرة، منها الصبرُ على الشَّدائدِ والبَلايا وَالثباتُ في وَجهِ الباطلِ والوقوفُ إلى جانبِ الحَقِّ بِشَجاعَةٍ وَحَزْمٍ بِبَذْلِ الوَقْتِ والجُهْدِ والمالِ لِنُصْرَتِه، جعلَنا اللهُ مِنَ الْمُوَفَّقينَ لِنُصْرَةِ هذَا الدِّين. هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبةُ الثانيةُ
إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فَاتَّقُوهُ وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُحَاسِبَكُمُ الله، وَحِسَابُ اللهِ لِلخَلْقِ بأَنْ يُسْمِعَهُمْ كَلامَهُ الذِي ليسَ حَرْفًا ولا صوتًا ولا لغَةً لأَنَّ الْكَلامَ الَّذِي يَكُونُ بِالْحَرْفِ والصَّوْتِ وَاللُّغَةِ مَخْلُوقٌ وَاللهُ لا يَتَّصِفُ بِحَادِثٍ بل كلامُ اللهِ أَزَلِيٌّ أبَدِيٌّ لَا يُشْبِهُ كَلامَنَا ولا يَنْقَطِعُ لا يَجْوزُ على اللهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ ثُمَّ يَسْكُتَ لأن هذا صفةُ الْمَخْلُوقِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في كِتَابِهِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَيَتَكَلَّمُ أي اللهُ لا كَكَلامِنَا نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلآتِ وَالْحُرُوفِ وَاللهُ يَتَكَلَّمُ بِلا ءالَةٍ وَلا حَرْفٍ اهـ. وَالآلآتُ هِيَ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ كَالشَّفَتَيْنِ. وأمَّا قَولُهُ تعالَى {إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢}[4] فَمَعْنَاهُ أنَّ اللهَ تعالى يُوجِدُ الأَشْيَاءَ بِلَا تَعَبٍ وَلا مَشَقَّةٍ ولَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْطِقُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ، النُّطْقُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ مِنْ صِفَاتِنَا والله ليسَ كمثلِهِ شَىْءٌ.
اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ اللهمَّ قِنَا عذابَك يومَ تَبْعَثُ عِبادَكَ رَبَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.
[1] سورة التوبة.
[2] رواه أحمد في مسنده وغيره.
[3] رواه البخاري.
[4] سورة يس.