إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهديهِ ونشكرُه ونعوذُ باللهِ ِمنْ شُرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ. وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ. وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عبدُه ورسولُه وصَفِيُّهُ وخليلُه أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلعالَمِينَ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، فبلَّغَ الرِّسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونَصحَ الأُمةَ فجزاهُ اللهُ عنا خيرَ مَا جَزَى نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ.
صلواتُ رَبِّي وسَلامُه علَى سيِّدِنا محمدٍ وعَلَى ءالِه وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الْقَائِلِ ﴿إِنَّا أَنزَلنَٰهُ قُرءَٰنًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُم تَعقِلُونَ ٢﴾[1] وقالَ تعالى ﴿كِتَٰب فُصِّلَت ءَايَٰتُهُۥ قُرءَانًا عَرَبِيّا لِّقَوم يَعلَمُونَ ٣﴾[2] وقالَ تعالى ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ ٥٨﴾[3] إنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ أُمَّةَ سَيِّدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم سَيِّدَةَ الأُمَمِ وَخِتَامَهَا، وَجَعَلَ نَبِيَّهَا المصطفى سَيِّدَ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَخِتَامَهُمْ، وجعَلَ شريعتَهُ خَاتِمَةَ الشَّرَائِعِ، وَكِتَابَهُ القُرْءَانَ الكَرِيمَ خَاتمَ الكُتُبِ السماويةِ الشريفةِ، فأنزَلَهُ بِلُغَةٍ هِيَ سَيِّدَةُ اللُّغَاتِ وأفضَلُها، وأَغْنَاها وأَحْلاها وأَيْسَرُها، وَقَدْ قَالَ الحَبِيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم في بَيانِ فَضْلِ اللُّغةِ العربيةِ وَرِفعتِها وأَهميتِها أَحِبُّوا العَرَبَ لِثَلاثٍ، لِأَنِّي عَرَبِيٌّ وَالقُرْءَانَ عَرَبيٌّ وكلامَ أَهْلِ الجَنَّةِ عَرَبيٌّ[4] اهـ رواهُ الحاكمُ في الْمُسْتَدْرَكِ وصَحَّحَهُ، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ ولسانَ أهلِ الجنةِ عَرَبِيٌّ فَأَيُّ شَرَفٍ وَأَيُّ رِفْعَةٍ وَأَيُّ مَرْتَبَةٍ تِلْكَ التِي نَالَتْهَا لُغَتُنَا الجَلِيلَةُ الجَمِيلَةُ، اللغةُ العربيةُ!
لَيْسَ يَخْفَى علَى العَاقِلِ اللَّبِيبِ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ اللغَةِ العَرَبِيَّةِ وَعُلومِها هُوَ مِفْتَاحٌ مُهِمٌ مِنْ مَفَاتِيحِ فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعُلومُ اللغةِ العربيةِ مِنْ نَحوٍ وَصَرْفٍ وبلاغَةٍ وفِقْهِ لغةٍ واشْتِقاقٍ وغَيْرِها، إِنَّما نَشَأَتْ خِدْمَةً لِعُلُومِ الشريعةِ الإسلاميةِ، وصِيانَةً للِّسانِ العربيِّ مِنَ الانزِلاقِ في اللَّحْنِ في الألفَاظِ والْمَعَانِي، ففَتَحَ اللهُ علَى الأئِمَّةِ الأَجِلَّاءِ مِنْ لَدُنْ صحابةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وعلَى رأسِهِمْ أَمِيرُ المؤمنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ كرمَ اللهُ وَجْهَهُ مَا اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ قَواعِدَ وضَوابِطَ وأحكامٍ بُنِيَتْ عليهَا تلكَ العُلُومُ اللُّغَوِيَّةُ الغَرَّاءُ، وكانَ ذلكَ مِمَّا رَسَّخَ اللغةَ العربيةَ في القُلوبِ والأَذْهَانِ، وَلَا سِيَّمَا عندَ الأُمَمِ الأَعْجَمِيَّةِ التِي دَخَلَتْ شُعوبُها في دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَتَعَلَّقَتْ بِالإسلامِ وبِلُغَةِ القُرءانِ الكريمِ، بَلْ إِنَّ كثيرًا مِنْ نَوَابِغِ الأَئِمَّةِ واللُّغَوِيِّينَ كانُوا مِمَّنْ نَشَأَ في أَقاليمَ غَيرِ عَرَبِيَّةٍ، وَإِنَّ الوَاحدَ منّا إذَا نظَرَ في عُلومِ الشريعةِ الإسلاميةِ يَجِدُ مُباشَرَةً ذلكَ الارْتِبَاطَ الْمُهِمَّ والأَسَاسَ بَيْنَها وبينَ عُلومِ لُغَتِنَا العَربيةِ.
فَدُونَكُمْ عِلْمَ التَّفْسِيرِ الذي هو مِنْ أَعْظَمِ العُلُومِ وَأَجَلِّها وَسَائِرَ عُلومِ القُرءانِ وَتَفْسِيرَ الحَدِيثِ الشريفِ وأُصُولَ الفِقهِ فلا غِنَى لِمَنْ يَدْرُسُها وَيُدَرِّسُها عَنْ مَعْرِفَةِ النَّحْوِ والصَّرْفِ والبَلاغَةِ وفِقْهِ اللغةِ العربيةِ كمَا أنهُ لا غِنَى لِحَيَاةِ الإنسانِ عن قلبِه ودِماغِه وبِدُونِها لا يَسْتَقِيمُ للنَّاظِرِ فيها فَهْمٌ وَلا تَصَوُّرٌ، والشَّأْنُ ذاتُه في عِلْمِ التوحيدِ والفقهِ والفِرَقِ، بل إنَّ كثيرًا مِنْ شُبَهِ الْمُعتزلةِ والمجسمةِ والحُلوليِّينَ قامَتْ علَى جهلِهم بمواضعَ مِنْ قَوانينِ اللغةِ وأَحكامِها، وَبِمَعْنَى اللغةِ العربيةِ وقَدْ ذكَرَ لنَا التاريخُ كثيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ.
فما كانَ منَ الأئمةِ الأعلامِ ءانذَاك إلَّا أَنْ جَرَّدُوا صَارِمَ العَزْمِ وقلمَ التَّحقيقِ والرَّدَّ المتينَ، فَبَدَّدُوا غَياهِبَ تِلكَ الشُّبَهِ بسَاطِعِ الدَّلائِلِ والبَرَاهِينِ، مُتَّخِذِينَ مِنْ عُلُومِ اللُّغةِ العَربيةِ ذَخِيرةً عِلْمِيَّةً بَقِيَتْ إلَى العَصْرِ الحَدِيثِ شَاهِدَةً علَى مَا حوَتْهُ هذهِ اللغةُ مِنْ أَسْرَارٍ وَخَصائِصَ لَمْ يَظْفرْ بِدُرَرِها إِلّا كُلُّ غَوَّاصٍ صادِقٍ فتَحَ اللهُ علَى قَلْبِهِ، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُمْ.
تلكَ هيَ لُغَتُنا العربيةُ لغةُ القرءانِ الكَريمِ التي نَعْتَزُّ بِها وَنَتَمَسَّكُ بِهَا، وَنَأْبَى أَنْ نَرْضَى بِإِهْمَالِها أَوِ التَّخَلِّي عنهَا وعن عُلُومِها أوِ التَّلاعُبِ بِها أَو تَحْريفِها أَوْ تَحْرِيفِ قواعِدِهَا فهَنِيئًا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِلُغَةِ القُرْءَانِ، وَمَضَى يَغْرِفُ مِنْ بَحْرِ عُلومِها وَفُنُونِها الزَّاهِرَةِ الزَّاخِرَةِ. وَالجِدَّ الْجِدَّ إخوةَ الإيمانِ في تَعَلُّمِهَا وَحِفْظِ مُتُونِها والتَّمَكُّنِ فِيهَا، فَإِنَّ في ذَلِكَ صِيَانَةً لِأَمْرِ الدِّينِ، وَتَقْوِيَةً لِلصِّلَةِ بَيْنِ رُبُوعِ الْمُسْلِمِينَ، ورِفْعَةَ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللهِ سُبحانَهُ وتعالَى ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَليَتَنَافَسِ ٱلمُتَنَٰفِسُونَ ٢٦﴾[5]
هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم
الخطبةُ الثانيةُ
إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. وَرَضِيَ اللهُ عَنْ أُمَّهاتِ المؤمِنينَ وءالِ البَيْتِ الطَّاهِرينَ وَعَنِ الخُلفاءِ الرَّاشدِينَ أبِي بكرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أبِي حنيفَةَ ومَالِكٍ والشافِعِيِّ وأحمَدَ وعنِ الأولياءِ والصَّالحينَ.
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه. واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ والسلامِ علَى نَبِيِّهِ الكَريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيهِ وَسَلِّمُواْ تَسلِيمًا ٥٦﴾[6]، اللهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلَى ءالِ سَيِّدِنا محمدٍ كما صلَّيتَ على سيدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيِّدِنا إبراهيمَ وبَارِكْ عَلَى سيدِنا محمَّدٍ وعلَى ءالِ سيدِنا محمدٍ كمَا باركتَ على سيدِنا إبراهيمَ وعلَى ءالِ سيدِنا إبراهيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيدٌ اللهمَّ ءاتِنَا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النارِ اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفَافَ وَالغِنَى اللَّهمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلوبَنا علَى طَاعَتِكَ اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وشَماتَةِ الأَعْدَاءِ اللهمَّ أَصْلِحْ لنَا دِينَنا الذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا وَأَصْلِحْ لنَا دُنْيَانَا التِي فيهَا مَعَاشُنَا وأصلِحْ لنَا ءاخِرَتَنا التي فِيهَا مَعَادُنا واجْعَلِ الحياةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ کُلِّ شَرٍّ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ وَالِإحسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَی عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
[1] سورة يوسف.
[2] سورة فصلت.
[3] سورة الدخان.
[4] رواه الحاكم في المستدرك. ذكر فضائل الأمة بعد الصحابة والتابعين.
[5] سورة المطففين.
[6] سورة الأحزاب/56.