الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونستغفِرُهُ ونستَرْشِدُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ولا شبيهَ ولا مَثِيلَ لَهُ مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبالكَ فاللهُ بِخِلافِ ذلكَ وَمَنْ وَصَفَ اللهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وأشهدُ أَنَّ سیدَنا وحبيبَنا وقائِدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنَا محمدًا عَبْدُ اللهِ ورسولُه وصفيُّهُ وحبيبُه وخَلِيلُهُ. اللهمَّ صلِّ على سيدِنا محمدٍ وعلَى ءالِه وصحبِه الطيبينَ الطاهرينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإِحسانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، أما بعدُ عبادَ اللهِ فَأُوصِي نَفْسِي وإياكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العَظِيمِ فاتقوا اللهَ رَبَّكُمُ الذِي قَالَ في كِتابِهِ الكَرِيمِ في سورةِ البَيِّنَةِ ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ ٥﴾.
وعنْ أَميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ الإسلامُ أَنْ تَشْهَدَ أن لا إله إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ وتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزكاةَ[1] اهـ الحديثَ.
لِيُعْلَمْ أَنَّ الزكاةَ فَريضَةٌ عظيمةٌ وعَمَلٌ جَلِيلٌ مَنْ أَدَّاها مِنَ المؤمنينَ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ حَازَ الأَجْرَ مِن ربِّ العالمينَ فإنَّ العَبْدَ ومَا يَمْلِكُ مِلْكٌ للهِ، فَجَدِيرٌ بِهِ أَنْ يُطِيعَ اللهَ وأَنْ يَتَصَرَّفَ في مالِه بِما يُرضِي اللهَ فَيَقِفَ عندَ حدِّ الشرعِ فإنَّ اللهَ هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، هذَا فَضْلًا عَنْ أَنَّ الاهتِمامَ بِأَمْرِ الزَّكاةِ سَبَبٌ لِحُصولِ البَرَكَةِ في المالِ، فقَدْ قالَ اللهُ تعالى في سورةِ سَبَإ ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡء فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾، وَمَنْ بَاركَ اللهُ لهُ كانَ علَى خَيرٍ عَظِيمٍ وَلَرُبَّما ضَيَّعَ امْرُؤٌ الزكاةَ فَابْتُلِيَ بِآفَةٍ تُذْهِبُ كُلَّ مَالِهِ بِشُؤْمِ تَرْكِ الزَّكاةِ، والْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِلْخَيْرِ.
قالَ اللهُ عَزَّ وجلَّ في سورةِ البَقَرَةِ ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا
ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡر يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾.
وإذا مَا عُلِمَ هذَا فَلا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُفْتَتَنَ بِالمالِ ولا أَنْ يَحْمِلَهُ الجَشَعُ على تركِ الإنفاقِ في سبيلِ اللهِ فإنَّ البَخِيلَ يَعِيشُ عِيشَةَ الفُقَراءِ وَيُحاسَبُ حِسَابَ الأَغْنِيَاءِ وقَد رَوَى البخاريُّ عن خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ قالَت سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ[2] اهـ
فَعَلَى مَنْ وَجَبَتْ عليهِ الزكاةُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ مَسائِلِها فإِنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ يَدْفَعُونَ المالَ زَكَاةً مِنْ غَيرِ أَنْ تَصِحَّ منهم بِسَبَبِ جَهْلِهمْ بِأَحْكامِها فَيُخِلُّونَ بِها إِخْلَالَ الْجاهِلِ الذِي لا يَعْرِفُ تَصْحِيحَ العِبادَةِ فَيُخْرِجُ ما لا يَصِحُّ إِخْرَاجُه أَوْ يُعْطِي مَنْ لا يَجُوزُ في الشَّرْعِ إِعْطَاؤُه، وَلا تَكْفِي هذهِ الخُطبةُ لِبَسْطِ الكَلامِ في كُلِّ أحكامِ الزكاةِ ولذلكَ نَنْصَحُ مُريدَ الزكاةِ أَنْ يَسْأَلَ أهلَ العِلْمِ الْمُعْتَبَرِينَ قَبْلَ إِخْرَاجِهَا لِيُخْرِجَها بعدَ ذلكَ على الوَجْهِ الذِي تَصِحُّ بهِ، ولكن قَدْ رأيتُ أنهُ مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا أَنْ أُنَبِّهَ على بعضِ الْمَسَائِلِ فَأَقُولُ وباللهِ التوفيقُ
المسألةُ الأُولى أَنَّ الزكاةَ تجبُ بِمُرورِ عَامٍ قَمَرِيٍّ كامِلٍ علَى المالِ الحَوْلِيِّ كأَمْوالِ التجارةِ أَوِ الذَّهَبِ أَوِ الفِضَّةِ، ولا يُشْتَرَطُ حَوَلانُ الحَوْلِ أيْ مُرورُ العَامِ في بَعْضِ الأَمْوَالِ الأُخْرَى كَالثِّمارِ وَالزُّروعِ لِقَوْلِه تعالى في سورةِ الأَنْعَامِ ﴿وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِ﴾[3].
فَمَنْ حَالَ الحَوْلُ على مَالِه الذِي وَجَبَتْ فيهِ الزكاةُ فَأَخَّرَها بِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ عَصَى اللهَ فإنَّ تأخيرَ الزكاةِ عَنْ وَقْتِ وُجوبِها لغيرِ عُذْرٍ حَرَامٌ، أمَّا تَعْجِيلُ الزكاةِ بِأَنْ يُخْرِجَهَا قبلَ تَمامِ الحَوْلِ فَيَجُوزُ بِالشُّروطِ التي ذَكَرَهَا الفُقَهَاءُ.
المسألةُ الثانيةُ قد يَحْصُلُ أَحْيَانًا أَنْ يكونَ لِإِنْسَانٍ دَيْنٌ علَى الآخَرِ فيَقُولُ أَجْعَلُ هذا المالَ الذِي لِي فِي ذِمَّةِ فُلانٍ زكاةً فهَذا لا يَصِحُّ لأنهُ لَمْ يَنْوِ الزكاةَ حِينَ أَعْطَاهُ بَلْ أَرَادَ القَرْضَ مَثَلًا، ولا بُدَّ لِصِحَّةِ الزكاةِ مِنَ النِّيَّةِ القَلْبِيَّةِ في جَمِيعِ أَنْواعِها عِنْدَ دَفْعِهَا أَوْ عِنْدَ الإِفْرَازِ أَيْ عَزْلِ القَدْرِ الذِي يَكُونَ زكاةً عَنْ مَالِه.
المسألةُ الثالثةُ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ يجبُ إِيصَالُ عَيْنِ مالِ الزكاةِ لِمُسْتَحِقِّ الزكاةِ.
فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ وَضْعَ أَمْوَالِ الزَّكَوَاتِ في البُنوكِ وَتَشْغِيلَهَا بحيثُ لا يُعْرَفُ بعدَ ذلكَ عينُ مالِ الزكاةِ وَيُعْطَى المستَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ حَرَامٌ، فَلْيَنْظُرْ مُرِيدُ إخراجِ الزكاةِ أينَ يَدْفَعُ مَالَهُ، فَإِنّهُ لا يجوزُ إِعْطاءُ الزكاةِ لِغَيْرِ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالَى في سورةِ التوبةِ في قَولِه تعالى ﴿إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَة مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٠﴾.
ولا يَعْنِي قولُه تعالى ﴿وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ كُلَّ عَمَلٍ خَيْرِيٍّ كمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، فَإِنَّ العَطْفَ بِالوَاوِ كمَا هُوَ مَعْرُوفٌ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ يُفِيدُ الْمُغَايَرَةَ أَيْ أَنَّ هذَا الصِّنْفَ غَيْرُ الأَصْنَافِ الأُخْرَى التِي عُطِفَ عليهَا كمَا تَقُولُ جاءَ زيدٌ وعَمْرٌو فيكونُ زيدٌ غَيْرَ عَمْرٍو والقَوْلُ بأنَّ ﴿فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ شَامِلٌ لِكُلِّ عَمَلٍ خَيْرِيٍّ خِلافُ مَا يَقْتَضِيهُ العَطْفُ بِالوَاوِ فَلا يَصِحُّ، إِذْ لَوْ كانَ المرادُ هكَذَا لَمَا كانَتْ حَاجَةٌ لِذِكْرِ بَقِيَّةِ الأَصْنَافِ وَلاكْتُفِيَ بِفِي سَبِيلِ الله.
وحيثُ عُلِمَ هذَا فَإِنَّنا نَنْصَحُ مُرِيدَ الزكاةِ أَنْ يَتَحَرَّى الصَّوابَ بِالسُّؤالِ عَمَّا يَحْتَاجُ إليهِ مِنْ مَعرفةِ أحكامِ الزكاةِ إنْسانًا عَالِمًا ثِقَةً لِتَقَعَ صَدَقَتُهُ مَوْقِعَ القَبُولِ. هذا وأستَغْفِرُ الله.
الخطبةُ الثانيةُ
إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه.
وَاعْلَمُوا أَنَّ صحّةَ الصيام لَيْسَتْ مَرْبوطَةً بِصِحَّةِ الصَّلاةِ، الصَّلاةَ فَرْضٌ مُسْتَقِلٌّ وَالصِّيامُ فَرْضٌ مُسْتَقِلٌ، فَهَؤُلاءِ الذينَ يَقُولونَ لِبَعْضِ الناسِ إذَا لَمْ تُصَلِّ فَلِمَاذَا تَصُومُ يَقُولونَ كَلامًا يَتَنَاقَلُونَهُ بَيْنَهُمْ يقولونَ الصَّائِمُ بِلا صَلاةٍ كالرَّاعِي بِلا عَصَا فَهؤلاءِ إِنَّما يَزِيدُونَ النَّاسَ بُعْدًا مِنَ اللهِ تعالى، كثيرٌ مِنَ الناسِ نُفُوسُهُمْ تَتَكَاسَلَ عَنِ الصَّلاةِ جِدًّا مَهْمَا كانَتْ عِنْدَهُمْ وَسَائِلُ الرَّاحَةِ فإِذَا قيلَ لهُ إذَا لَمْ تُصَلِّ فَلا فَائِدَةَ لكَ في صِيامِكَ يَتْرُكُ الصيامَ أيضًا يَقُولُ حيثُ إنهُ لا ثَوابَ لي في صِيامِي فلِماذَا أُتْعِبُ نَفْسِي، فَنَحْنُ نَقُولُ معصيةٌ واحدَةٌ أَهْوَنُ مِنْ مَعْصِيَتَيْنِ، هؤلاءِ على زَعْمِهِمْ يَحُضُّونَ النَّاسَ علَى الدِّينِ لِكنَّهُمْ يُهْلِكُون غَيْرَهم ويُهلكونَ أنْفُسَهُم، هذا الكلامُ ليْسَ مِنَ الخَيْرِ في شَىْءٍ إنَّما هوَ وَسَوَسَةٌ شَيْطَانِيَّة.
اللهمَّ ءاتِنَا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النارِ اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفَافَ وَالغِنَى اللَّهمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلوبَنا علَى طَاعَتِكَ اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وشَماتَةِ الأَعْدَاءِ اللهمَّ أَصْلِحْ لنَا دِينَنا الذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا وَأَصْلِحْ لنَا دُنْيَانَا التِي فيهَا مَعَاشُنَا وأصلِحْ لنَا ءاخِرَتَنا التي فِيهَا مَعَادُنا واجْعَلِ الحياةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ کُلِّ شَرٍّ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ وَالِإحسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَی عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
[1] رواه مسلم في كتاب الإيمان باب معرفة الإيمان والإسلام والقَدَرِ وعلامةِ الساعة.
[2] رواه البخاري في كتاب الخمسس باب قوله تعالى ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ﴾.
[3] سورة الأنعام الآية 141.