إنَّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وأشهدُ أَنْ لَا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنا وحَبِيبَنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفِيُّهُ وحبيبُه صلّى الله تعالى على محمدٍ وعلى ءاله وصحبِه وسَلّمَ أما بعدُ عبادَ اللهِ فَإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ القائلِ في مُحْكَمِ كِتابِه {فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مُتَقَلَّبَكُمۡ وَمَثۡوَىٰكُمۡ ١٩}[1].
يا عبادَ اللهِ .. عِبَادَةُ ربِّكُمْ تكونُ بِمعرفةِ اللهِ .. واعتقادِ حَقِّيَّةِ المعرفةِ واقتِرانِ ذلكَ بِتَعْظِيمِه علَى مَا يَلِيقُ بِاللهِ .. والانقيادِ لأمرِه بِطاعتِه واجتنابِ ما نَهى عنه .. عبدُ اللهِ يعرفُ الله .. وهذهِ المعرِفَةُ لا تكونُ معرفةَ إِحَاطَةٍ بذَاتِ رَبِّكُمْ بَلْ بِمعرفةِ مَا وَصَفَ بِه ذاتَه مِنَ الصِّفات .. عبدُ اللهِ مَخْلوقٌ وإِدْرَاكاتُه مَخْلُوقَةٌ وعَقْلُهُ مَهْمَا اتَّسَعَتْ مَدَارِكُهُ لَهُ حَدٌّ يَقِفُ عندَه .. فَاعْرِفُوا رَبَّكُمْ وَاعْبُدُوهُ واللهُ العظيمُ يقولُ {فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ} العِلمُ باللهِ مُقَدَّمٌ علَى العَمَلِ، فَاعْلَمْ ثُمَّ اسْتَغْفِرْ، هكذا معنَى ما جاءَ في القُرءانِ .. واللهُ العظيمُ يقولُ {هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ ١٥ إِذۡ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوًى ١٦ ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ١٧ فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ١٨ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ ١٩}[2] فدَلَّنا هذَا إلى أَنَّ الهدايَةَ هيَ سبيلُ الخَشْيَة .. مَنْ عَرَفَ اللهَ ينبغِي أن يُؤَدِّيَهُ ذلكَ إلى الخشيةِ مِنْهُ .. فاعرِفوا اللهَ يا عبادَ اللهِ وَاخْشَوْهُ وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقاتِه … عِزُّ العبادِ بعبادَةِ رَبِّهم والعِبادَةُ لا بد أن تكونَ بعدَ المعرِفَةِ .. الجاهِلُ بِرَبِّهِ لا يَعرفُ تعظيمَه .. الجاهِلُ بربِّه لا يعرفُ كيفَ يُطيعُه .. إنّما يَخْشَى اللهَ مِنَ عبادِه العُلَمَاءُ.
معرفةُ ربِّكُمْ تحصُلُ بمعرفَةِ ثلاثَ عَشْرَةَ صفَةً ذُكِرَتْ في القرءانِ كثيرًا وفي السُّنّةِ كثيرًا وَرَدَّدَهَا المسلِمونَ حيثُ كانُوا كثيرًا ولا بدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أنّها صِفَاتُ رَبِّ العالمينَ ولا بُدّ مِنْ عِلْمِ أَنَّها لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِين.
رَبُّنا مَوجُود .. لا شكَّ في وُجودِه لَمْ يَسْبِقْ وُجودَهُ عَدَمٌ هُوَ الخالِقُ وكلُّ ما سِواهُ خَلْقُهُ وتَدْبِيرُه بِمَشيئَتِهِ وعِلمِه … وَرَبُّنا هُوَ الأوَّلُ الذِي لا بِدَايةَ لوجودِه قبلَ الزَّمانِ والمكانِ قالَ اللهُ تعالى {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ} … واللهُ ربُّ العالمينَ هوَ الآخِرُ الذِي لا يفنَى ولا يَبِيدُ قالَ اللهُ تعالَى {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ}[3] وقالَ تعالَى {وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ ٢٧}[4] أي يبقَى ذَاتُ اللهِ.
واللهُ هو السّميعُ البَصِيرُ فسَمْعُ اللهِ صِفَةُ اللهِ بلا كيفٍ وَبَصَرُ اللهِ صفةُ اللهِ بلا كيفٍ يَسْمَعُ بِلا حَاجَةٍ إلَى الآلاتِ مِنْ أُذُنٍ وَصِمَاخٍ ويَرَى بِلا حَاجَةٍ إلى حدَقَةٍ واتِّصالِ شُعاع، المخلوقُ يَحتاجُ لِلآلةِ في سَمْعِهِ وبصرِهِ وسائِرِ أَمْرِهِ واللهُ ليسَ كمثلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ.
وربُّنا لَهُ كلامٌ سَمِعَهُ سيدُنا موسَى وسمعَهُ سيدُنا محمدٌ صلواتُ ربي وسلامُه عليهِما لا يُشبِهُ كلامَ الخَلْقِ، كلامُكُمْ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَلُغَةٌ وكلامُ اللهِ وَصْفُ رَبِّكُمْ لا يَكُونُ كقولِكُمْ لا هُوَ لُغَةٌ وَلا حَرْفٌ ولا صَوْتٌ بَلْ هُوَ صفةُ ربِّ العالمينَ الْمُنَزَّهِ عَنْ مُشابَهَةِ المخلوقِينَ.
وربُّنَا لَهُ الإرادَةُ يعنِي المشيئَةَ وَهِيَ صِفَةٌ يُخَصِّصُ اللهُ بِها مَنْ شَاءَ مِنَ الخَلْقِ بِما يَشاءُ فهذَا شَقِيٌّ وهذَا سعيدٌ وذاكَ قَبِيحٌ وذاكَ حَسَنٌ .. وهوَ القَادِرُ على كُلِّ شىءٍ ولا يُعجِزُهُ شىءٌ .. وَهُوَ العالِمُ لا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَىءٌ مِنَ المعلوماتِ مِمَّا كانَ ويكونُ وسَيَكُونُ.
واللهُ هوَ الحيُّ القيُّوم .. حياةُ اللهِ صِفَةُ اللهِ .. ليسَتْ بِرُوحٍ وجَسَدٍ ولا تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَعانِي المخلوقينَ فحيَاةُ رَبِّ الأَحْياءِ لا تُشْبِهُ حياتَهُم قالَ تعالَى {هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ}[5] واللهُ لَهُ الوَحْدَانِيَّةُ فاللهُ واحِدٌ بمعنَى أنهُ لا شريكَ لهُ في ذاتِه وَوَصْفِهِ وفِعْلِهِ .. قالَ اللهُ تعالَى {وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰه وَٰحِد}[6].
واللهُ سبحانَهُ الذِي يَحتاجُه كلُّ خلقِهِ لا يَحْتَاجُ إلى شىءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَلِلهِ صِفَةُ القِيَامِ بالنَّفْسِ لا يَحْتَاجُ إلَى مَا سِواهُ وهوَ الغنِيُّ عن العالمين. وهوَ الخالِقُ الذِي وَصَفَ نفسَهُ فقالَ {أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٧}[7] فهُوَ سبحانَهُ مُخَالِفٌ للحوادِثِ أي لا يُشبِهُ شيئًا مِنْ خَلْقِهِ ولا يُشبِهُهُ شىءٌ مِنْ خَلْقِهِ قالَ تعالَى {لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡء }[8].
هكذا يعرِفُ العبدُ ربَّه وَمَنْ قالَ بِخِلافِ ذلكَ أَوِ اعتَقَدَ خلافَ ذلكَ فمَا عرَفَ اللهَ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِوُجودِ اللهِ كَأنَّهُ قالَ .. هذَا العالَمُ غيرُ مخلوق ..
ومَن قالَ اللهُ ليسَ هو الأوَّلَ كأنّه قالَ .. اللهُ مَخْلُوقٌ
ومن قالَ اللهُ ليسَ باقيًا كأنهُ قالَ .. يجوزُ علَى اللهِ العَدَم
ومن قالَ اللهُ لا يُوصَفُ بالسَّمعِ والبَصَرِ كأنهُ قالَ اللهُ أَعْمَى وأَصَمُّ
وهكذَا الأَمْرُ في بَقِيّةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ .. فَاعلَمُوهَا وَعَلِّمُوهَا وَاحْفَظُوها وحَفِّظُوها واعبُدُوا رَبَّكُمْ كمَا أمرَكُمْ فإنَّ العقيدةَ الحقَّةَ باللهِ عزّ وجَلَّ مِفْتَاحُ كُنوزِ الخَيْرَاتِ وبابُ الوُصولِ إلى نَيلِ المبَرَّات. هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.
الخطبةُ الثانيةُ
إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتقوه.
إخوةَ الإيمانِ إنَّ المسلمينَ اليومَ يَنْتَظِرُونَ بِشَوْقٍ أَفْضَلَ أَيَّامِ العَامِ، أَيْ يَوْمَ عَرَفَةَ الذي رَوَى الترمذيُّ وغيرُه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال فيه أفضلُ الدعاءِ يومُ عَرَفَةَ وأَفْضَلُ ما قلتُ أنا والنبيونَ مِنْ قَبْلِي لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لهُ الملكُ وله الحمدُ وهو عَلَى كلِّ شىءٍ قَدِير اهـ ويومُ عرفةَ يُسْتَحَبُّ لغيرِ الحاجِّ صِيامُهُ فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ اهـ[9] أما الحاجُّ فيُسْتَحَبُّ فيهِ أن يكونَ مُفْطِرًا فَلا يصومُ لكن يُستحبُّ لَهُ أنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ والتَّهْلِيلِ وقِراءَةِ القُرْءَانِ فَهذِه وَظِيفَةُ هذا الْمَوْضِعِ الْمُبَارَكِ.
وَبِمَا أَنَّهُ ثَبَتَ لَدَيْنا أَحْبَابَنا بِالوَجْهِ الشَّرْعِيِّ أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ هُوَ الخَمِيسُ ويومَ عيدِ الأَضْحَى المباركِ هُوَ الجمعةُ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ خُطْبَةَ العِيدِ وَصَلاتَهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَيْسَا فَرْضَ عَيْنٍ عَلى الذُّكورِ الأَحْرارِ الْمُكَلَّفِينَ الذِينَ اسْتَكْمَلُوا شَرائِطَ وُجوبِ الجمعةِ كَصَلاةِ الجُمُعَةِ فَبِالتَّالي حُضُورُ صَلاةِ العِيدِ لا يُغْنِي عَنْ صَلاةِ الجمعةِ فَمَنْ صَلَّى صلاةَ العِيدِ تَبْقَى صلاةُ الجمعةِ وَاجِبَةً عليهِ وَلا تَسْقُطُ عنهُ فَتَنَبَّهُوا حَفِظَكُمُ اللهُ ولا تَتْرُكُوا الفَرْضَ لِأَجْلِ السُّنَّةِ وَهَنِيئَا لِمَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ فَحَظِيَ بِكِلَيْهِمَا.
اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمَّ ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ وأَدْخِلْنَا الجنَّةَ مَعَ الأَبْرَارِ يَا عَزِيزُ يَا غَفَّار اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ اللهُمَّ وَفِّقْ حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ الحَرامِ لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ وَرُدَّهُمْ إلينا سَالِمينَ غَانِمينَ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا.
عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَقِمِ الصلاةَ.
[1] سورة محمد.
[2] سورة النازعات.
[3] سورة الحديد/3.
[4] سورة الرحمن.
[5] سورة البقرة/255.
[6] سورة البقرة/163.
[7] سورة النحل.
[8] سورة الشورى/11.
[9] رواه مسلم.