وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِر يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق

إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَـيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ الواحدُ الذِي لا شريكَ لَهُ في الأُلوهِيَّةِ، الأحدُ الذِي لا يقبَلُ الانقسَامَ ولا التجزُّؤَ لأنهُ ليسَ جِسمًا ولا يُوصَفُ بصفاتِ الجِسمِ، الفردُ الصَّمَدُ المستَغْنِي عن كُلِّ ما سِوَاهُ والمفتَقِرُ إليهِ كلُّ ما عداهُ لا يحتاجُ للسمواتِ ولا لِلأرضِ ولا لِشَىْءٍ من خَلْقِهِ، خَلَقَ العَرْشَ إظهارًا لقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِه. وأشهدُ أنَّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنَا وقائِدَنا وقرَّةَ أعيُنِنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه بلَّغَ الرِّسالَةَ وأدَّى الأمانَةَ ونصَحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جَزَى نبيًا من أنبيائِه. صَلَى اللهُ وسلمَ على سيدِنا محمدٍ وعلَى جميعِ إخوانِه النبيينَ والمرسلينَ وءالِ كلٍّ وصحبِ كُلٍّ والصالِحين.

أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أوصِي نفسِي وأوصيكُم بتقوَى اللهِ العلِيِّ العظيمِ، القائِلِ في مُحكَمِ كتابِهِ ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا وَهُدى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰت مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِناۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٧﴾[1].

إخوةَ الإيمانِ والإِسلامِ، إِنَّ الكَعْبةَ المشَرَّفَةَ هي أولُ بَيتٍ وَمَسْجِدٍ وُضِعَ في هذهِ الأرضِ، وءَادَمُ عليهِ السَّلامُ هُوَ أَوَّلُ من بَناهُ وقَدِ انْهَدَمَ بالطُّوفانِ الذي حَصلَ في زَمنِ نوحٍ عليهِ السلامُ والذِي عمَّ كُلَّ الأرضِ.

والكعبةُ وسطَ المعمورةِ وفوقَها إلى السَّماءِ السابِعَةِ البيتُ المعمُورُ وهو بيتٌ مُشَرَّفٌ هُوَ لأهلِ السماءِ الملائِكَةِ كالكعبةِ لأَهلِ الأرضِ كُلَّ يومٍ يَدْخُلُهُ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يُصلونَ فيهِ ثم يَخرُجونَ ولا يَعودُونَ أبدًا.

أَمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه إبراهيمَ ببناءِ البيتِ الحرامِ، بِبِناءِ الكَعبَةِ وأرشَدَهُ إلى مكانِ البيتِ الحرامِ، فسَارَ عليهِ السلامُ إلى مَكَّةَ ووَجَدَ ابنَهُ إسماعيلَ وراءَ زَمْزَمَ فقالَ لَهُ يا إِسماعيلُ إنَّ اللهَ قد أمرَنِي أَنْ أبنِيَ بيتًا. قالَ له إسماعيلُ فَأَطِعْ رَبَّكَ. فقالَ لهُ إبراهيمُ قَدْ أمرَكَ أَنْ تُعينَنِي على بِنائِهِ. قالَ إِذَنْ أَفْعَلُ.

فقامَ إبراهيمُ إلى مكانِ البيتِ فجَعلَ يبنِي وإسماعيلُ يُناوِلُهُ الحِجارَةَ وكُلَّمَا أَنْهَيا بِناءَ صَفٍّ فيهَا ارتَفَعَ مقامُ إبراهيمَ بهِ حتى يَبنِيَ الذِي فَوقَهُ وهكذا حتى تَمَّتْ عِمَارَتُها، فمَقَامُ إبراهيمَ هُوَ حَجَرٌ كَانَ يَقِفُ عليهِ إبراهيمُ عندَ بِناءِ الكَعبَةِ وَضَعَهُ لَهُ ابنُهُ إسماعيلُ لِيَرْتَفِعَ عليهِ لَمَّا تَعالَى البِنَاءُ. يَقولُ رَبُّ العِزَّةِ في مُحْكَمِ كِتابِه ﴿وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١٢٧﴾[2].

وعندما أكمَلَ إبراهيمُ بِنَاءَ الكعبةِ قالَ لابنِه إسماعيلَ إِيتِنِي بِحَجَرٍ حسنٍ أَضَعُهُ عَلَى الرُّكنِ فَيَكون للناسِ عَلَمًا فأتاهُ جِبريلُ الأمينُ عليهِ السلامُ بِالحجَرِ الأَسْوَدِ فأخَذَهُ ووَضَعَهُ مَوْضِعَهُ.

ووَرَدَ أنَّ الْمَقَامَ وَالْحَجَرَ الأَسْوَدَ نَزَلا مِنَ الجَنَّةِ وهُمَا ياقُوتَتَانِ مِنْ يَواقِيتِ الجَنَّةِ ثُمَّ طَمَسَ اللهُ نُورَهُما وَلَوْلا ذلكَ لأضَاءَا ما بينَ المشرِقِ والمغرِبِ. ثم الحجَرُ اسْوَدَّ لَمَّا تَمَسَّحَ المشرِكُونَ بهِ وذلكَ بعدمَا كَفَرَ أهلُ مكةَ بعبادَةِ الوَثنِ بعدَ نَبِيِّ اللهِ إسماعيلَ بزَمَنٍ طويلٍ لِيَكونَ ذلِكَ عِبْرَةً.

وبعدَ أَنْ فرغَ إبراهيمُ عليه السلام مِنْ بناءِ البيتِ الحرامِ مَعَ وَلَدِهِ إسماعيلَ أمرَهُ اللهُ أن يُؤَذِّنَ في الناسِ بِالحجِّ. قالَ تعالَى ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِر يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ٢٧﴾[3].

أَمرَهُ ربُّ العالَمينَ أن يُنادِيَ بالحَجِّ، قالَ يَا رَبّ كيفَ أُسْمِعُهُم ؟ فقالَ اللهُ لَهُ عَلَيَّ البَلاغُ أي أَنَا أُسْمِعُهُم.

ولِلْمُلاحَظَةِ إخوةَ الإيمانِ، كلامُ اللهِ أي الصِّفَةُ الثابِتَةُ لَهُ سبحانَهُ وتعالى أزليةٌ أَبَدِيَّةٌ، وكلامُ اللهِ ليسَ لُغَةً وَلا حَرْفًا وَلا صَوْتًا، لَيسَ كَكَلامِ العَالَمين.

صَعِدَ إبراهيمُ عليهِ السلامُ الصفَا فقالَ يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللهَ كَتَبَ عليكُمْ حَجَّ البَيْتِ العَتِيقِ فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، فَمَا بَقِيَ شىءٌ سَمِعَ صوتَهُ إلاَّ أَقْبَلَ يُلَبِّي وَيَقُولُ لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ.

وفي روايةٍ أخرَى قالَ إنَّ اللهَ يدعوكم إلَى حَجِّ البَيْتِ الحرامِ لِيُثيبَكُمْ بِهِ الجنَّةَ وَيُخْرِجَكُمْ مِنَ النَّارِ فأجابَهُ يَوْمَئِذٍ مَنْ كانَ في أصلابِ الرِّجالِ وأَرْحَامِ النِّسَاءِ لبيك اللهمَّ لبيك فَمَنْ أَجَابَ يَومَئِذٍ حَجَّ على قَدْرِ الإِجابَةِ، إِنْ أجابَ مَرَّةً فمرَّةً (أي إِنْ قالَ المجُيبُ لبيك اللهمَّ لبيكَ مرَّةً واحدةً حجَّ مرَّةً واحِدَةً) وإِنْ أجابَ مَرَّتَيْنِ فمَرَّتَيْنِ.

ولما أمرَ عليهِ السَّلامُ أن يُؤَذِّنَ في الناسِ بِالحَجِّ خَفَضَتِ الجِبالُ رُؤُوسَها وَرُفِعَتْ لَهُ القُرَى، ووعدَهُ ربُّه إجابَةَ الناسِ إلى حَجِّ البيتِ ما بَيْنَ رَاجِلٍ وراكِبٍ، قالَ تعالَى ﴿يَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِر﴾.

اللهمَّ بِحَقِّ محمدٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ونوحٍ ارزُقْنَا الحجَّ وزيارَةَ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ إنَّك علَى كُلِّ شىءٍ قديرٌ. هذا وأستغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.

الخطبة الثانية:

إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلَّى اللهُ على سيدِنا محمدٍ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.

أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونفسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ وبالثباتِ على نهجِ رسولِه محمدٍ الصادقِ الوَعْدِ الأمينِ.

واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦[4] اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ  على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ استجبْ لنا دعاءَنا، اللهم اغفرِ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. وَأَقِمِ الصلاةَ.

 

[1] سورة ءال عمران.

[2] سورة البقرة.

[3] سورة الحج.

[4]  سورة الأحزاب/56.