مجردُ الاستِغَاثةِ بغيرِ اللهِ ليسَ شِرْكًا

إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ ِمنْ شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلـهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مِثْلَ وَلا نِدَّ لَهُ، ولا حَدَّ ولا جُثَّةَ وَلا أَعضاءَ لَه، أَحَدٌ صمدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وَقُرَّةَ أَعْيُنِنا مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه مَنْ بعثَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ هاديًا ومبشّرًا. اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على سيِّدِنا محمدٍ الدَّاعِي إلَى الخيرِ وَالرَّشاد، الذِي سَنَّ لِلأُمَّةِ طريقَ الفَلاح، وبيَّنَ لَهَا سُبُلَ النَّجاح، وعلَى ءَالِهِ وَصَفْوَةِ الأَصْحَابِ.

أما بعدُ عبادَ اللهِ فَإِنِّي أُوصيكُمْ ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ بِاتِّباعِ شَرْعِ نَبِيِّهِ بِالعَمَلِ بِمَا جَاءَ بهِ صلى الله عليه وسلم وسارِعُوا في الطَّاعاتِ قبلَ انْقِضَاءِ الأَجَلِ لِنَيْلِ الحسَنَاتِ لِتَثْقُلَ مَوازِينُكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فقد قالَ ربُّنا تبارك وتعالى {فَأَمَّا مَن ثَقُلَت مَوَٰزِينُهُۥ ٦ فَهُوَ فِي عِيشَة رَّاضِيَة ٧ وَأَمَّا مَن خَفَّت مَوَٰزِينُهُۥ ٨ فَأُمُّهُۥ هَاوِيَة ٩}[1].

وروى الترمذيُّ في سُنَنِه عن أبِي هُريرَةَ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ماتَ ابْنُ ءادَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ اﻫ ومعنَى قولِه صلى الله عليه وسلم انْقَطَعَ عمَلُهُ أنَّ العَمَلَ التَّكليفِيَّ الذِي يَتَرَتَّبُ عليهِ الثَّوابُ انْقَطَعَ بِموتِ ابْنِ ءادَمَ إلا مِنْ هذهِ الثَّلاثِ التِي هِيَ بِسَبَبِه. فَمَنْ تَرَكَ عِلْمًا يُنْتَفَعُ بهِ يتَجَدَّدُ لِهذَا الميِتِ الثَّوابُ بِقَدْرِ الانْتِفَاعِ بِهذَا العِلْمِ الذِي خَلَّفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لأنهُ كانَ سَبَبًا في هذَا النَّفْعِ. وَإِنْ تَرَكَ صَدَقَةً جَارِيَةً كأَنْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً لِيُتَعَلَّمَ فيهَا العُلومُ النَّافِعَةُ أو نحوَ ذلك فإنهُ يتجدَّدُ لهذَا الميّتِ الثَّوابُ كلَّمَا انْتُفِعَ بِمَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ بِسَبَبِه. وَإِنْ دَعَا لَهُ وَلَدُه الصَّالِحُ بِدُعَاءٍ أَوْ بِإِهْدَاءِ ثَوَابِ قِراءَتِهِ لِلْقُرْءَانِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَتَجَدَّدُ لِهذَا الميّتِ ثَوابٌ لَمّا كانَ صلاحُ وَلَدِهِ بِسَبَبِ تَأْدِيبِه لَهُ وتَعْلِيمِهِ لِيَكونَ صَالِحًا. فَنَبَّهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ بأَنَّ العَمَلَ الذِي يَحْصُلُ لَهُمْ بهِ الثَّوَابُ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِمْ فَلْيُبَادِرُوا إلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قبلَ الموت. وليسَ في هَذَا الحديثِ مَا ادَّعَاهُ البعضُ مِنْ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ ماتَ فَلا عَمَلَ لَهُ بعدَ مَوْتِهِ وَلا يَنْفَعُ غَيْرَهُ فَلا يَجوزُ أَنْ يُنَادَى بَعْدَ مَوْتِهِ بِقَوْلِ يَا محمدُ أَوْ يَا َرسولَ اللهِ بَلِ ادَّعَوْا أَنَّ ذلكَ شِرْكٌ يُخْرِجُ مِنَ الإِسلامِ وقولُهُمْ هذَا خِلَافا لِمَا عليه المسلمونَ من سلفٍ وخلفٍ ويستدلون لدعواهُمْ هَذِهِ بِحَدِيثِ “إِذَا ماتَ ابْنُ ءادَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ” وليس في الحديثِ دَليلٌ علَى مَا زَعَمُوا بَلْ مَعْنَى الحديثِ كمَا بَيَّنَّا أنَّ العملَ التَّكليفِيَّ أيِ العَمَلَ الذِي يُثابُ عليهِ الشخصُ هو الذِي يَنْقَطِعُ لا أَنَّ الميّتَ يكونُ كَالخشَبَةِ بعدَ الدَّفْنِ لا يُحِسُّ شيئًا ولا يَسْمَعُ شيئًا وَلا يَقُولُ شَيئًا، كيفَ وقَدْ ثَبَتَ عندَ ابنِ مَاجَهْ وغيرِهِ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قَبْرِه وأنَّهُ تُعْرَضُ عليهِ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ فَإِنْ رَأَى خَيْرًا حَمِدَ اللهَ عليهِ وَإِنْ رأَى غيرَ ذلكَ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وثَبَتَ أيضًا أَنَّه يَرُدُّ السلامَ على مَنْ سَلَّمَ عليهِ عندَ قبرِه وَيُبَلَّغُ سَلامَ مِنْ سَلَّمَ عليهِ نَائِيًا عَنْ بُعد. وقَدْ نَفَعَ سيدُنا موسى عليه السلامُ أُمَّةَ محمدٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بِأَنْ أَرْشَدَ سيّدَنا محمدًا ليلةَ المِعْرَاجِ إلى سُؤالِ اللهِ تَخْفِيفَ الصَّلواتِ المفروضَةِ مِنْ خَمْسِينَ صَلاةً حتّى صارَتْ خَمْسًا في كُلّ يَوْمٍ وليلَة، وفي هذَا دَلِيلٌ واضِحٌ على أنَّ الميّتَ يَنْفَعُ بعدَ الموتِ بِإِذْنِ اللهِ تبَارَكَ وتعالَى.

أيها الْمُتَسَرِعونَ في تكفيرِ الأُمّةِ هَلّا تَوقَّفتُم بُرْهَةً للتفكير … إذَا مَرِضْتُمْ فَأَخَذْتُمُ الدَّواءَ فَشُفِيتُمْ أَلَيْسَ الشّفَاءُ بِخَلْقِ اللهِ .. أَلَسْتُمْ قَدِ اتَّخَذْتُمُ الدَّواءَ سَبَبًا لِلشّفَاء .. هَلْ تَقولُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ لاتّخاذِكُمُ الدّواءَ سَبَبًا لِلشّفَاءِ .. مَا أَظُنُّكُمْ تفعَلونَ ذلكَ فَإِذَا كَانَ مَنِ اتَّخَذَ دَوَاءً رَكَّبَهُ زَيدٌ أَوْ عَمْرٌو لا يُشْرِكُ بِاتّخاذِ الدَّوَاءِ سَبَبًا لِلشّفاءِ مَعَ يَقِينِهِ بِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ النَّفْعِ وَالضُّرّ والمرضِ والشّفاءِ فكيفَ يُكَفَّرُ مَنِ اتَّخَذَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبَبًا لِنَيْلِ حاجَتِه.

إخوةَ الإيمانِ إنَّ الصحابةَ رِضْوانُ اللهِ عليهم فَهِمُوا مِنْ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم جوازَ الاستِغَاثَةِ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بعدَ وَفَاتِه فَعَلَ ذلكَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُما وغيرُه رَوَى البُخَارِيُّ في الأَدَبِ الْمُفْرَدِ في بَابِ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا خَدِرَتْ رِجْلُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أصابَهُ خَدَرٌ فِي رِجْلِهِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إليكَ فقالَ يَا محمّدُ اﻫ وفي رِوَايَةِ ابْنِ السُّنيِّ قَالَ يَا مُحمَّدَاه فَقَامَ فَمَشَى اﻫ وفِي رِوَايَةٍ لَهُ أيضًا فقالَ يَا مُحَمَّدُ فكأَنَّمَا نشِطَ مِنْ عِقَال اﻫ أَيْ ذَهَبَ عنهُ هذَا الخَدَرُ والخدرُ مَرَضٌ مِثْلُ الشَّلَلِ. فهذَا الذِي حصلَ مِنْ عبدِ اللهِ ابنِ عُمَرَ استغاثَهٌ بِرَسولِ اللهِ بِلَفْظِ يَا محمدُ وعندَ هؤلاء المتهورينَ المتسرعينَ بالتكفيرِ الاستغاثةُ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بعدَ مَماتِه شِرْكٌ فمَاذَا يقولونَ أيَرْجِعُونَ عَنْ رَأْيِهِمْ في تَكْفِيرِ مَنْ يُنادِي يا محمدُ أم أنَّهم يَرْمُونَ بالشّرْكِ عبدَ اللهِ ابْنَ عُمَرَ هذا الصّحابِيَّ الذِي قالَ فيهِ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنهُ رَجُلٌ صَالِحٌ.

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ عَظِيمُ شَطَطِ الذِينَ يُكَفّرونَ الْمُتَوَسّلينَ وَالْمُسْتَغِيثِينَ لِمُجَرَّدِ قَوْلِ أَحَدِهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ ضَاقَتْ حِيلَتِي أَغِثْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلكَ مِنَ العِبارَاتِ وَيَسْتَحِلُّونَ بذلكَ دِمَاءَ المسلِمينَ وأَمْوالَهُمْ لِيَنْشُروا الفِتْنَةَ في الأرضِ وَيَسْعَوْا فِيهَا بِالفَسادِ. واللهُ الْمُسْتَعَانُ علَى أَمْثَالِهِمْ وهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى ونِعْمَ النَّصِير.

هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكم.

الخطبة الثانية

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه.

واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ والسلامِ علَى نَبِيِّهِ الكَريمِ فقالَ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيهِ وَسَلِّمُواْ تَسلِيمًا ٥٦﴾[2] اللهم صلِّ على سيّدِنا محمّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمّدٍ كما صلّيتَ علَى سيّدِنا إبراهيمَ وعلَى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمّدٍ كما باركتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلَى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مَجيدٌ، اللهمَّ إنّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لَنا ذُنوبَنا وَإِسْرَافَنا في أَمْرِنا، اللهمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأَمْوات، اللهمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنا وأَبْصَارِنا وقُوَّتِنَا وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا مَا أَحْيَيْتَنَا، اللهمَّ لا تجعلْ مصيبتَنا في دينِنا، اللهمّ لا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِّنا ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا تُسلِّطْ علينَا مَنْ لا يرحمُنا، ربّنا ءاتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّار، اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا.

عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَقِمِ الصلاةَ.

[1] سورة القارعة.

[2] سورة الأحزاب.