النهيُ عَنِ التَّسَرُّعِ في التَّكْفِيرِ

الحمدُ للهِ الذِي خَلَقَ الإِنسانَ فَسَوّاهُ فعدَلَه، فِي أيِّ صورةٍ مَا شاءَ رَكّبَه، وأَنْعَمَ عليهِ بِنِعَمٍ سَابِغَاتٍ وَلَوْ شَاءَ مَنَعَه، وشَقَّ لهُ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ وَجَعَلَ لَهُ لِسَانًا فَأَنْطَقَه، وخَلقَ لَهُ عَقْلًا وَكَلَّفَه. وَصَلّى اللهُ علَى سيدِنا محمدٍ صفوةِ خلقِهِ وعلَى ءَالِهِ البَرَرَةِ وأَصْحَابِه الخِيَرَة، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا مثيلَ ولا ضدَّ ولا ندَّ له، وأشهدُ أن سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفِيُّه وحبيبُه، صلواتُ رَبِي وسَلامُه عليهِ وعلَى كُلِّ رسولٍ أَرْسَلَهُ.

أما بعدُ عبادَ اللهِ فَإِنِي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَليِّ العَظِيمِ بأَدَاءِ مَا أوجبَ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عنهُ فإنَّ نِعَمَ اللهِ تعالَى علينَا كثيرةٌ لا نُحْصِيها وَهُوَ تعالَى مَالِكُنَا وَمَالِكُ مَا أَنْعَمَ بهِ علينَا وَقَدْ أوجبَ اللهُ علينَا شُكْرَ هذهِ النِعَمِ وذلكَ بأنْ لا نَسْتَعْمِلَهَا في ما لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ، أي أَنْ لا نستعمِلَها في ما حرَّمَهُ علينا، فَاتَّقِ اللهَ أَخِي المسلم وَلا تَعْصِ اللهَ بِما أَنعمَ بهِ عليكَ وَمَلَّكَكَ إِيّاهُ فَإِنَّكَ إِنْ عَصَيْتَهُ فَقَدْ عَصَيْتَ مَنْ تَجِبُ عليكَ طَاعَتُهُ وظَلَمْتَ نَفْسَكَ، واللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِين.

ودَعُونَا إخوةَ الإيمانِ نَتَحَدَّثُ قليلًا عن نعمةٍ عظيمةٍ مِنْ تِلْكَ النِعَمِ التي شَرَّفَ اللهُ بها الإنسانَ وَامْتَنَّ بِها عليهِ أَلَا وَهِيَ نِعْمَةُ اللسانِ وقَدْ ذَكَرَها اللهُ في القُرءانِ مُعَدِدًا نِعَمَهُ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ قالَ اللهُ تباركَ وتعالَى في سورةِ البَلد ﴿أَلَم نَجعَل لَّهُۥ عَينَينِ ٨ وَلِسَانا وَشَفَتَينِ ٩﴾ فهوَ نِعْمَةٌ بَالِغَةٌ غَزُرَ نَفْعُهُ وعَظُمَ خَطَرُهُ حتى قيلَ فيهِ جِرْمُهُ صَغِيرٌ وَجُرْمُهُ كَبِيرٌ أَيْ حَجْمُهُ صغيرٌ وما يحصُلُ بهِ منَ الذّنْبِ كَبِيرٌ، وأَوْصَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ اللسانِ وَأَكَّدَهُ بقولِه مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ اهـ فَالْمُرادُ أنَّ الشخصَ إذا أرادَ أن يتكلمَ فَلْيَنْظُرْ قبلَ أَنْ يتكلمَ هل فِي هذَا الكلامِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ فَإِنْ عَلِمَ فيهِ خيرًا تَكَلَّمَ وَإِلّا سَكَتَ، والعملُ بهذَا الحديثِ فيهِ حِفْظُ الدِينِ فإنَّ الإنسانَ إذَا تكَلَّمَ بِما يَخْطُرُ لهُ دونَ تَفْكِيرٍ فِي عواقِبِ هذَا الكَلامِ فَقَدْ يَهْلِكُ في الوُقوعِ في كُفْرٍ أو مَعْصِيَةٍ وَقَدْ يَضِيعُ وَقْتُه في مَا لا فائدةَ فيهِ لا سيَّما أَنَّ أكثرَ المعاصِي هِيَ مَعَاصِي اللسانِ وذلكَ لأنَّ النُّطْقَ أَسْهَلُ شَىءٍ علَى الإنسانِ وَمِنْ ذلكَ أنّ بعضَ الناسِ يُسْأَلُ عن مسئلةٍ فَيَتَسَرَّعُ في الإِجابةِ فيهَا وإعطاءِ حُكْمٍ يَزْعُمُه حُكْمَ الشرعِ بغيرِ عِلْمٍ وَمِنْ غَيرِ أَنْ يَعْتَمِدَ في الجوابِ علَى مَا سَمِعَهُ مِنَ العلماءِ وهذا مِنَ الْمُهْلِكاتِ بَلْ إنَّ البعضَ قد يُجيبُ السائلَ عن قولٍ صدَرَ منهُ بأنَّكَ وَقَعْتَ في الكُفْرِ والعياذُ باللهِ مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وكانَ عليهِ قبلَ أن يقولَ له كفَرْتَ أن يَعْرِضَ الكلامَ على قواعِدِ الشرعِ أي أَنْ يَتَعَلَّمَ القواعِدَ الشرعيةَ التي تُبْنَى عليهَا الْمُكَفِرَاتُ اللفظيةُ حتى يَعْمَلَ علَى وَفْقِ مَا قَرَّرَهُ الفُقَهَاءُ، وَمِنْ تلكَ القواعِدِ أَنْ يَنْظُرَ في اللفظِ هَلْ هُوَ مِنَ الألفاظِ الظاهرةِ التِي لهَا بِحَسَبِ اللغةِ أَكْثَرُ مِنْ معنى أمْ أَنَّهُ لَفْظٌ صَرِيحٌ لَيْسَ لَهُ إِلّا مَعْنًى وَاحِدٌ فَإِنْ كانَ مِنَ الألفاظِ الظاهرةِ التِي لها أَكْثَرُ مِنْ مَعْنى بحيثُ إذا استُعْمِلَتْ في الكلامِ يكونُ بعضُها كُفْرًا وبعضُهَا ليسَ كُفْرًا فَلا يُكَفَّرُ قائِلُهُ إِلّا إذَا عُلِمَ منهُ إِرادَةُ المعنَى الكُفْرِيِّ وَمِثَالُ ذلكَ مَا رُوِيَ عن محمدِ بنِ الحسَنِ الشيبانيِ مِنْ أصحابِ أبِي حنيفَةَ رضيَ اللهُ عنهُمَا وَهُوَ أنهُ لَوْ قيلَ لِرَجُلٍ صَلِ فقالَ لا أُصَلِي فَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِي لِأَنِي قَدْ صَلَّيْتُ لا يكفُرُ وَإِنْ أرَادَ لَا أُصَلّي لِقَولِكَ لا يَكفُرُ وَكَذَا إِنْ أَرَادَ لَا أُصَلّي لأنِي مُتَكَاسِلٌ، وأمَّا إِنْ أَرَادَ أنَّهُ لا يُصِلّي لأنهُ مُسْتَخِفٌ بِالصَّلاةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ اهـ وَإِنْ كانَ مِنَ الألفاظِ الصريحةِ التي ليسَ لَها إلّا معنًى واحدٌ كَفَرَ قائِلُهَا إنْ كانَ يَفْهَمُ المعنَى وذلكَ كَسَبِّ اللهِ أو سبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو أَيِّ رسولٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ عليهمُ السلامُ أَوْ سبِّ عزرائيلَ أو أيِّ مَلَكٍ منَ الملائكةِ الكِرامِ أو سبِّ الكعبةِ أو حَلَّلَ حَرَامًا يَعْرِفُ أَنَّهُ حَرامٌ في الشَّرْعِ كالزِّنا وَشُرْبِ الخَمْرِ أَوْ حَرَّمَ حَلالًا يعرفُ أنه في شرعِ اللهِ حَلالٌ كالزِّواجِ أو نَسبَ إلى اللهِ الجِسْمْيَّةَ أوِ الجهةَ أو المكانَ أوِ الجُلوسَ على العَرشِ لأنَّ اللهَ تعالى لَا يُشبِهُ المخلوقاتِ وَيُطْلَبُ مِمَّنْ صَدَرَ منهُ مِثْلُ ذلكَ الرُّجوعُ إلى الإسلامِ بِالنُّطْقِ بالشَّهادَتَينِ.

فَكُنْ يَا أَخِي المسلمَ علَى ذُكْرٍ أنّكَ إذَا تَكَلَّمْتَ بِكَلِمَةٍ كُتِبَ لكَ أَوْ عَلَيْكَ فإِنَّ اللهَ تعالَى قالَ في كتابِهِ العَزِيزِ ﴿مَّا يَلفِظُ مِن قَولٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيد ١٨﴾[1]

نسألُ اللهَ تعالَى أن يُجَنِبَنَا الكَلامَ الذِي فيهِ معصيةٌ وأَنْ يَرْزُقَنا لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا خَاشِعًا إنَّهُ علَى كُلّ شَىءٍ قَدِير.

أقولُ قولي هذَا وأستَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي وَلَكُم.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِ العَظِيمِ فاتّقوه.

اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا، اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ وَاحْفَظْ أَلْسِنَتَنَا مِمّا يُدْخِلُ النارَ وألهِمْنَا أَنْ نَسْتَعْمِلَ أَلْسِنَتَنا وسائرَ جوارِحِنا في مَا يُرْضِيكَ ربَّنا فَإِنّ المعصومَ مَنْ عَصَمْتَهُ وَالْمُوَفَّقَ مَنْ وَفَّقْتَهُ والمخذُولَ مَنْ أَشْقَيْتَهُ، ربَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ، اللهُمَّ اجعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غيرَ ضَالّينَ وَلا مُضِلّينَ اللهمَّ استُرْ عَورَاتِنا وءامِنْ رَوْعاتِنَا واكْفِنَا ما أَهَمَّنا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ اللهمَّ اجْزِ الشيخَ عبدَ اللهِ الهررِيَّ رَحَمَاتُ اللهِ عليهِ عنَّا خَيْرا. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَقِمِ الصلاةَ.

 

[1] سورة ق.