الإيمانُ باللهِ ورسولِه

الحمدُ للهِ الواحِدِ القَهَّارِ العزيزِ الغفّارِ مُكَوِّرِ اللَّيلِ على النهارِ تذكرةً لأُولِي القلوبِ والأَبْصَارِ وتبصرِةً لِذَوِي الأَلْبَابِ وَالاعتِبار وصلَّى اللهُ علَى سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِه وصحبِه الطيِّبينَ الطَّاهِرينَ وَسلَّم، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفِيُّهُ وحبيبُه صلَّى اللهُ عليهِ وعَلى كلِّ رسولٍ أرسلَهُ مَنْ بَعثَهُ اللهُ رحمةً للعالَمينَ هادِيًا وَمُبَشِّرًا ونَذِيرًا بَلَّغَ الرسالةَ وأَدَّى الأمانةَ ونَصحَ الأُمّةَ فجزاهُ اللهُ عنّا خيرَ ما جزَى نبيًّا مِنْ أَنْبيائِه.

أمّا بعدُ عبادَ الله فإنّي أُوصيكُمْ ونفسي بتقوى اللهِ العليِّ العظيمِ القائلِ في مُحكمِ كِتابِه {وَمَن لَّم يُؤمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ فَإِنَّا أَعتَدنَا لِلكَٰفِرِينَ سَعِيرا ١٣}[1] إخوةَ الإيمانِ إنَّ مِمّا يجبُ علَى الْمُكَلَّفينَ الإيمانَ باللهِ ورسولِه وهو أَصْلُ الوَاجباتِ وأفضَلُها وأَعلاهَا وأَوْلاهَا فأَمَّا الإيمانُ بِاللهِ فهو الاعتِقادُ الجازِمُ بوجودِه تعالَى علَى ما يليقُ بهِ فهو تعالَى موجودٌ لا شكَّ في وُجودِه موجودٌ بِلا كيفيَّةٍ ولا كَمِّيَّةٍ ولا مَكانٍ وَلا جِهة، وأمّا الإيمانُ برسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم فهو الاعتقادُ بِأنَّ محمدَ بنَ عبدِ اللهِ هو رسولُ اللهِ إلى الإنسِ والجنِّ وأنهُ صادقٌ في كُلِّ مَا يُبَلِّغُه عنِ الله.

فمعرفةُ اللهِ تعالى معَ إفرادِه بِالعبادةِ أي نهايةِ التّذَلُّلِ هي أعظَمُ حُقوقِ اللهِ تعالى علَى عبادِه فمعرِفَتُنا نحنُ باللهِ ليسَتْ علَى سَبِيلِ الإحاطةِ بل بِمعرفَةِ ما يجبُ للهِ تعالَى كوُجوبِ قِدَمِه تعالَى أي أزَلِيَّتِه ووُجوبِ وَحدانيَّتِه وعلمِه بِكُلِّ شىءٍ ومُخالَفَتِه للمخلوقاتِ وتنْزيهِه عمّا يستحيلُ عليهِ تعالى كاستِحالةِ الشّريكِ لهُ والحدِّ أَي الحجمِ والشكلِ والصورةِ والتحيُّزِ في المكانِ والجهةِ ومعرفةِ ما يجوزُ في حَقِّه تعالَى كخَلْقِ شَىءٍ وَتَرْكِه، فقد قالَ الإِمامُ الرِّفاعيُّ رضيَ اللهُ عنه غايةُ المعرِفَةِ بِاللهِ الإِيقانُ بوُجودِه تعالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ اﻫ أَيْ أَنَّ أَقْصَى مَا يَصِلُ إليهِ العَبْدُ مِنَ المعرفةِ بِاللهِ الاعتِقادُ الجازِمُ الذِي لا شكَّ فيهِ بِوجودِ اللهِ تعالَى بلا كيفٍ ولا مَكان، فقولُه بِلا كيفٍ صَريحٌ في نَفْيِ الجِسْمِ والحَيِّزِ والشَّكْلِ وَالحرَكةِ والسُّكونِ والاتِّصالِ والانفِصالِ والقُعودِ عنهُ تعالى فالكيفُ يَشْمَلُ كلَّ ما كانَ من صفاتِ المخلوقينَ فمَنْ أيقَنَ بأنَّ اللهَ موجودٌ بِلا كيفٍ ولا مَكانٍ فقد وصلَ إلى غايةِ ما يبلُغُ الإنسانُ من معرفةِ اللهِ تباركَ وتعالى. ومعرفَةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم تكونُ بِمَعْرِفَةِ ما يَجِبُ لِلأَنْبياءِ مِنَ الصِّفاتِ ومَا يستحيلُ عليهِمْ ومَا يجوزُ في حَقِّهِم.

فيَجِبُ الإيمانُ باللهِ ورسولِه إخوةَ الإيمان ولا تَلْتَفِتُنَّ إلى من يخالفُ ذلك فَيُسَوِّي بينَ المؤمِنِ وغيرِه ويدعو الناسَ إلى عبادةِ ما شَاءُوا مِنْ دونِ اللهِ والعياذُ باللهِ فإنَّ الآخرةَ ءاتيةٌ والسؤالَ حَقٌّ وأهم ما يُحاسَبُ عليهِ الإنسانُ هُو الإيمان. أليسَ رُوِيَ أنَّ بعضَ كفّارِ قريشٍ طلبُوا منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يَعْبُدَ أوثانَهم سنةً ويعبُدوا إلَهَهُ سنةً فأنزلَ اللهُ تعالى سورةَ الكافرونَ فقالَ عزَّ مِنْ قائِلٍ {قُل} أي يا محمدُ {يَٰأَيُّهَا ٱلكَٰفِرُونَ ١ لَا أَعبُدُ مَا تَعبُدُونَ ٢} أَيْ لا الآنَ ولا فِيمَا بَقِيَ من عُمْرِي {وَلَا أَنتُم عَٰبِدُونَ مَا أَعبُدُ ٣} أي لا الآنَ ولا فيمَا يُسْتَقْبَلُ إِذْ إنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ منهم أنَّهم لا يُؤْمِنُون {وَلَا أَنَا عَابِد مَّا عَبَدتُّم ٤ وَلَا أَنتُم عَٰبِدُونَ مَا أَعبُدُ ٥} هذَا توكيدٌ فائدتُه قَطْعُ أَطْمَاعِ الكفارِ وَتَحْقِيقُ الإِخبارِ بوَفاتِهِمْ علَى الكُفْرِ وأنَّهم لا يُسْلِمُونَ أبَدًا وَلا يُؤمِنُون {لَكُم دِينُكُم وَلِيَ دِينِ ٦} وفي هذِه الآيةِ معنَى التَّهديدِ فقولُه تعالَى {لَكُم دِينُكُم} أي البَاطِلُ وهُوَ الشِّرْكُ الذِي تَعْتَقِدُونَه {وَلِيَ دِينِ} الذِي هو دينُ الحقِّ وهو الإسلامُ أي لكم شِرْكُكُمْ ولي تَوحيدِي وهذا غايةٌ في التبرُّئِ منَ البَاطِلِ الذِي هُمْ علَيهِ ومِثْلُ ذلكَ في إفادَةِ التَّهديدِ وَالوَعيدِ قَولُه تعالَى {فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر} أي أنَّ مَنِ اخْتَارَ الإيمانَ لا يكونُ كَمَنِ اخْتَارَ الكُفْرَ بل مَنِ اخْتَارَ الكُفْرَ مُؤَاخَذٌ وَمَنِ اخْتَارَ الإيمانَ مُثَابٌ وبَقِيَّةُ الآيَةِ تَدُلُّ على هذَا الْمُرَادِ مِنْهَا {إِنَّا أَعتَدنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا وَإِن يَستَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَٱلمُهلِ يَشوِي ٱلوُجُوهَ بِئسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاءَت مُرتَفَقًا ٢٩}[2] نَسْأَلُ اللهَ تعالَى أَنْ يُحْيِيَنَا مُسْلِمينَ وأن يتوَفَّانا مُؤْمِنينَ وأَنْ يُعافِيَنَا مِنَ الفِتَنِ فِي الدِّينِ. أقولُ قولي هذَا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.

الخطبةُ الثانيةُ

إنّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهدِيهِ ونشكُرُه ونَستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلّ لهُ ومَن يُضلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ بن عبدِ الله وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَهُ، أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

إخوة الإيمان، في مثلِ هذا الشهرِ ذي الحجةِ لأربعِ ليالٍ بَقِينَ مِنه سنةَ ثلاثٍ وعشرينَ للهجرة كانَتْ وَفاةُ الخَليفةِ الرَّاشدِ الفاروقِ سيدِنا عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضي اللهُ عنه وأرضاهُ ورحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً، وَدُفِنَ في حُجْرَةِ أمِّ المؤمنينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا بِقُرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وَلِيَ عُمَرُ الخِلَافَةَ بِعَهْدٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وقَامَ بِأَمْرِ الخِلَافَةِ بِالصِّدْقِ والعَدْلِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ والسِّياسَةِ لا يَخَافُ في اللهِ لوْمَةَ لَائِمٍ. وَهُوَ مَعَ حَزْمِهِ كَانَ مُتَواضِعًا فَيُرْوَى أَنَّهُ حَمَلَ الدَّقِيقَ وَالطَّعَامَ عَلَىَ ظَهْرِهِ إلى الأَيْتَامِ الذِينَ عَلِمَ بِحالِهِمْ مِنَ الفَاقَةِ وَالشِّدَّةِ. في ذكرى وفاتِه رضي اللهُ عنه نتذكّرُ بعضًا مِن نَصائِحِه، فعَنْ ثَابِتِ بنِ الحَجَّاجِ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ حَاسِبُوْا أَنفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوْا وَزِنُوْا أَنْفُسَكُمُ قَبْلَ أَنْ تُوْزَنُوْا فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ اليَوْمَ، تَزَيَّنُوْا لِلْعَرْضِ الأَكْبَر {يَومَئِذ تُعرَضُونَ لَا تَخفَىٰ مِنكُم خَافِيَة ١٨}[3] اهـ نسألُ اللهَ تعالى أَنْ يَجعلَنا على نهجِهِ وأن يجمَعَنا بهِ في جناتِ النعيمِ وأن ينفعَنا بِبركاتِه وبركاتِ الصِّديقِ أبي بكرٍ وذِي النُّورَينِ عثمانَ وأبي الحَسَنَيْنِ عليٍّ رضي الله عنهم أجمعينَ وجزاهم عنِ الإسلامِ والمسلمينَ خيرًا.

واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ والسلامِ علَى نَبِيِّهِ الكَريمِ فقالَ {إِنَّ اللهَ وملائِكَتَهُ يُصَلُّونَ علَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الذينَ ءامنُوا صَلُّوا عليهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[4]، اللهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلَى ءالِ سَيِّدِنا محمدٍ كما صلَّيتَ على سيدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيِّدِنا إبراهيمَ وبَارِكْ عَلَى سيدِنا محمَّدٍ وعلَى ءالِ سيدِنا محمدٍ كمَا باركتَ على سيدِنا إبراهيمَ وعلَى ءالِ سيدِنا إبراهيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيدٌ. اللهمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ رَبَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ. عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.

 

[1] سورة الفتح/13.

[2] سورة الكهف/29.

[3] سورة الحاقة.

[4] سورة الأحزاب/56.